هناك عشرات بل مئات الظواهر التي تطفو على السطح في عشر دول عربية أو أكثر، وهي ظواهر ومظاهر للتصدُّع في المجتمعات والدول، من دون أن تبدو محاولات جادة فردية أو شعبية للإقدار على الضبط أو الانضباط أو التماسك، في مستويات الحدود الدنيا.
فلنتأمل المشهد في اليمن الآن، ومن قبل في العراق، وقبل ذلك في سوريا، ومن قبل ومن بعد في ليبيا. وهذا فضلا عن الدول التي ظهر فيها الاضطرابان السياسي والاجتماعي قبل زمن ما صار يُعرف بالربيع العربي.
ولكي تصبح ممكنة قراءة المشهد على نحو مفيد، نتخذ اليمن مثالا للظواهر التي تنفر أمام عين المراقب في كل مكان. فالقوى القديمة المتمثلة في عصبيات الرئيس علي عبد الله صالح تآمرت أو تحالفت مع «القوى الجديدة» الأخرى. وأقول الأخرى لأنه في دول التغيير العربي ظهر نوعان من القوى: شباب التغيير، والإسلامان السياسي والجهادي. وقد بدا الإسلام السياسي استيلائيا، في حين بدا الإسلام الجهادي عنيفا وانشقاقيا وطائفيا. ولا داعي للعودة هنا للتمييز بين الإسلام الجديد هذا، والإسلام التقليدي المذهبي وغير المذهبي. فقد صار ذلك واضحا تماما. إنّ الذي حدث في اليمن بعد «الثورة» جرى على ثلاث مراحل: مرحلة تقدم شباب التغيير إلى حدود إسقاط علي عبد الله صالح.. ومرحلة المبادرة الخليجية والدعم الدولي، والتي أعادت للمشهد أحزاب «اللقاء المشترك» المعادية لصالح قبل الثورة.. ومرحلة تعاون الحوثيين الانشقاقيين الطائفيين مع صالح ضد «اللقاء المشترك»، وضمنا ضد القوى الجديدة التي أظهرتها «الثورة». ويدخل اليمن الآن في مرحلة قد تكون الرابعة أو الخامسة، حيث تتصارع القوى القديمة وقوى الغَلَبة الجديدة، و«القاعدة»، باتجاه الحرب الأهلية أو الفوضى أو التقسيم، أو هذه الأمور جميعا.
إن ما حدث باليمن حدث مثله في العراق من قبل، وإن اختلفت البدايات. فالفرقاء الشيعة المدعومون من إيران سلمتهم الولايات المتحدة العراق. لكنّ المالكي نظر لنفسه بتشجيعٍ من إيران باعتباره فريقا غالبا، واستنصر بالميليشيات الطائفية. فواجهته قوى مدنية سنية وغير سنية (مثل شباب التغيير باليمن)، لكنها فشلت في تنحيته، إلى أن نحّاه ثوران انشقاقي عنيف وطائفي مثله ومثل الحوثيين. ورغم التدخل الدولي بالعراق؛ فالذي يحصل الآن صعود ميليشيات شيعية تواجه ميليشيا «داعش» السنية الطائفية هي الأخرى.
والذي حدث في سوريا أكثر تعقيدا أو تركيبا، لكنه غير مختلف في الجوهر. فقوى التغيير المدنية عجزت عن إسقاط النظام. وقد ترتب على هذا العجز عجز آخر، هو عدم القدرة على الائتلاف العسكري أو السياسي. ثم دخلت على المشهد وفي مواجهة النظام وخصومه الميليشيات الانشقاقية العنيفة، التي بدأت بتصفية معارضة النظام الأولى. وخلال تلك العملية الهائلة على مدى أكثر من ثلاث سنوات تدخلت القوى الخارجية إلى جانب النظام (روسيا وإيران وميليشياتها) أو ضده (تركيا وبعض الدول العربية).
ولنصل إلى ليبيا ضمن قراءة هذه الظواهر للتفكك. في ليبيا تسلّح الجميع لإسقاط القذافي بمعاونة دولية. ثم تنافس أهل الشرق (الذين اعتبروا أنفسهم مظلومين أيام القذافي) ضد أهل الغرب الليبي، الذين اعتبروا أنهم هم الذين أسقطوا القذافي! وتبلور المشهد في عام 2014 عن تحالف غير معلن بين قوى النظام القديم وأهل الشرق (!)، تعاونهم بقايا الجيش الليبي، ضد أهل الغرب الذين يسيطرون على العاصمة طرابلس وحتى الحدود مع تونس!
لقد اعتبرتُ في مطالعات سابقة أن هناك سببين لفشل التغيير العربي في هذه المرحلة: صعود الإسلام السياسي والجهادي، والتدخل الخارجي وبخاصة الإيراني. وهذان العاملان واضحان وبارزان. بيد أنّ الأبرز بين هذه الإعاقات هو التفكك الداخلي. وهي ظاهرة موجودة من قبل التغيير عام 2011، وبدت في الجزائر والسودان والصومال ولبنان. والحركات الشبابية ليست من قوى الانقسام، لكنها تتراوح بين الضعف والضعف الشديد، بمعنى أنها ليست قوى غالبة عدديا، ولا هي ذات مرتكزات اجتماعية قوية. وهذا فضلا عن عدم قدرتها على تنظيم نفسها وجمهورها بحيث تستطيع مقاومة العوامل الثلاثة الأخرى: القوى القديمة، وقوى الانشقاق الطائفي، وقوى التدخل الخارجي.
إن الداء الآخر الذي أنتج التفكك الهائل هذا ناجم عن غياب قوى اجتماعية وسياسية قوية وبارزة، تملك الوعي، وتملك القدرة على فرض الانضباط والتماسُك بالداخل وفي مواجهة التدخلات الخارجية. وفي ما يبدو لي حتى الآن فإن الانضباط والتماسُك هذا ما ظهر إلاّ في تونس: فهناك الوعي بين القوى السياسية وجهات المجتمع المدني. وهناك «العصب» الذي استند إليه هذا الوعي وهو «النقابات» التي فرضت على القوى السياسية والمدنية أمرين اثنين: رفض العنف، وضرورة التعاوُن بداخل المسار الانتقالي، ومن بعده.
أين الجمهور، أو أين مجموع الناس؟ أو أين «أصحاب المصلحة» في بقاء البلاد واحدة ومستقرة؟ يبدو أن الحديث عن الشعب أو الأمة أو الرأي العام في الحالة العربية الحاضرة فيه الكثير من التجوز. ومع ذلك فإن تأمل تفاصيل الظواهر يشير إلى أن القسمة التقليدية بين ريف وبوادي ومدن لا تزال ظاهرة. والملاحظ أن القوى الشبابية الجديدة والعابرة لهذه القسمة، أو ما صار يعرض بالطبقات أو الفئات الوسطى الجديدة باعتباره عامل توحيد، ما وصلت إلى أوجها. والدليل على بقاء القسمة التقليدية ظواهر بلدان حركات التغيير باستثناء مصر وتونس. فحركات التغيير ظهرت في المدن. وقد تعرضت للهجوم ليس من جانب عساكر الأنظمة وقوات أمنها وحسْب؛ بل ومن جانب قوى الريف والقوى القبلية المتمذهبة؛ من مثل «حزب الله»، و«داعش» و«النصرة»، والميليشيات الشيعية بالعراق، والحوثيين باليمن، و«بوكو حرام» بنيجيريا. وقد بدأ المدنيون في مدن العراق وسوريا وليبيا واليمن بل والسودان والصومال عديمي الحيلة وعاجزين، أمام بضع مئات أو آلاف من قوات الأنظمة، أو من مسلحي الميليشيات الانشقاقية والانقسامية.
لا عودة للأنظمة القديمة الأمنية والعسكرية. وما يجري بسوريا والسودان واليمن بهذا الاتجاه غير مستطاع الحدوث. أما في الجزائر ومصر فإنه حل مؤقت، ولا بد من أجل الوصول للاستقرار المريح والمرتاح من انفتاحات على الخارج الاجتماعي والثقافي والسياسي أكثر بكثير مما حصل في البلدين، وفي العراق. وبالطبع فإن الأفق التونسي هو الأكثر وعدا لدول الثورات. لكنه أفقٌ غير متاحٍ في المدى القريب. إذ إن الحالة في عدة بلدان عربية مما قبل عام 2011 وما بعده، تتّسم بالانسداد المخيف، الذي يقع بين العجز والتفكك. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
رضوان السيد