ابراهيم غرايبة
كل الأفكار والسياسات الجميلة التي تقدم أو تطبق تفشل إذا لم يكن المواطنون مشاركين بما هم مواطنون أحرار متساوون في صياغتها وتقديمها، وكل المشروعات والإنجازات معرضة للفشل والانهيار إذا لم تكن المدن والمجتمعات شريكا أساسيا فيها.
يذكّر موقع المواطنين والمجتمعات اليوم بالنسبة للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة اليوم بالأغنية العراقية الجميلة “مالي شغل بالسوق مريت أشوفك” فالمواطن متفرج سلبي، والمدن والمجتمعات تبدو مع الإنفاق العام والسياسات والبرامج كما لو أنها تحت الوصاية، ولم تنشئ الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني ولاية للمواطنين والمجتمعات على الموارد والسياسات.
وفي ذلك سوف نظل نعمل ضد أنفسنا وضد المسار الطبيعي والتاريخي لتشكلات المجتمعات والموارد، فعندما ارتبط لغويا مفهوم المدينة بالمواطنة والحريات والعدل والقانون والازدهار كان ذلك محصلة تفاعل وصراع طويلين مع الأمكنة والسلطات والمؤسسات والطبقات والطبيعة والاحتياجات الأساسية والارتقاء وتحسين الحياة، وصارت المدن تعبر عن المواطنة، وفي نجاحها في ذلك وأسبقيتها على الدولة الحديثة، صار مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة هو المدينة بما هي المواطنة، واقتبست الدولة الحديثة من المدن وفق معاهدة وستفاليا العام 1648 هذه الفلسفة المؤسسة للدول، وليس مصادفة أن المعاهدة وكتاب الحكم المدني تأليف جون لوك ظهرا في وقت واحد. هكذا صار مفهوم الحكم المستقل عن حق إلهي أو طبقي والمستمد من المواطنة فكرة جامعة للدول والمجتمعات والأفراد بعدما كان صاحبه (جون لوك) هاربا من بلده ومعرضا للإعدام!
تعود المدينة اليوم بما هي تعبير عن العقل والحرية البديل الواقعي والممكن من السياسات والتجارب التي ساقتنا إلى الكراهية والتطرف والفشل في تحقيق الاستقرار والتنمية. لم يكن ذلك مساراً مستقيماً وواضحاً، لكنه كان مساراً طويلاً ومعقداً وممتداً ومليئاً بالعثرات. ويلاحظ لويس ممفورد كيف استطاع الإنسان الحضري بالعمل والمشاركة وكذلك بالعزلة والتأمل أن يوفر لجانب أكبر من الحياة فرصة الإفادة من ممارسة الفكر والروح الجماعيين ونشاطهما باستمرار، فما بدا على هيئة صراع خارجي مع قوى الطبيعة العادية انتهى إلى دراما داخلية لم تكن خاتمتها أي انتصار مادي، بل إلى ازدياد فهم الفرد لذاته وتطور داخلي أوسع نطاقاً. وبنشوء مجالس المدن والتحادث والدراما تشكَّل تنوع مهني وفكري واجتماعي، ولم تعد المدينة مجتمعاً يسوده التماثل التام، وكما جاء على لسان هايمون في مسرحية أنتيغون لسوفوكليس “مدينة لا رأي فيها إلا لرجل واحد ليست مدينة”.
لقد كانت الحرية أو المواطن الحرّ أسوأ كابوس وإلى الأبد للطبقات المهيمنة والسلطة المطلقة والنفوذ المستتر، لكن لم يعد ممكناً إعادة الأمور إلى الوراء، بل اتسع مفهوم الحرية ومطلبها حتى صار محركاً وملهماً للأفراد والمجتمعات، يقول سقراط كما في كتاب جورجياس لأفلاطون: “إنك تطنب في مدح الرجال الذين احتفلوا بالمواطن وأشبعوا رغباتهم ويقول الناس إنهم جعلوا المدينة عظيمة. لكنهم لم يروا أن حالة المدينة وما بها من أورام وقروح يجب أن يعزى إلى هؤلاء السياسيين والشيوخ. وذلك لأنهم ملأوا جنبات المدينة بالثغور والأحواض والأسوار وموارد الدخل وما إلى ذلك. ولم يتركوا مكاناً للعدالة والاعتدال”.
وينسب ممفورد تراجع المدن في ظل الامبراطوريات إلى أنها لم تعد يقوم فيها كل فرد بدور وينطق بكلمات ذلك الدور، بل أصبحت مكاناً فخماً لعرض مظاهرة القوة، وتمشياً مع ذلك لم يكن لواجهات شوارعها إلا بعدان، فقد كانت بمثابة ستار يخفي نظاماً شاملاً من التنظيم والاستغلال.
المدن بما هي تجمع الناس أحراراً ومتساوين لأجل تحسين حياتهم وكما يرونها ويدركونها بعقولهم؛ تصعد مرة أخرى مرشحة لتأسيس النهضة المعاصرة.