عمر كوش
يبدو أن روسيا نجحت نسبياً في تبريد جبهات القتال في سورية، وجعلتها مناطق “منخفضة التصعيد” بعد أكثر من عامين من تدخلها العسكري المباشر لصالح النظام، وعقدها سلسلة من الاجتماعات في العاصمة الكازاخية، أستانة، بمشاركة ممثلين عن النظام وعن بعض فصائل المعارضة العسكرية، وتنسيقها مع كل من تركيا وإيران اللتين جعلتهما راعيين معها لمخرجات مسار أستانة.
وتبرز عشية الذهاب إلى اجتماع “أستانة 7″، المزمع عقده الأسبوع الجاري (30 و31 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، تساؤلات بشأن المخرجات المنتظرة منه، وعمّا إذا كان بالفعل سيسهم، حسب بيان وزارة الخارجية الكازاخستانية، في العمل على “إطلاق سراح المعتقلين والمحتجزين والرهائن، وتسليم جثث القتلى، والبحث عن المفقودين”.
ويشكل ملف المعتقلين ثقباً أسود، يسم تاريخ النظام الأسدي وطبيعته، بنسختيه الأب والابن، إذ شكل الاعتقال السياسي والاختفاء القسري المعلم الأبرز لهذا النظام الديكتاتوري الإجرامي، منذ جثومه على صدور السوريين، حيث زجّ النظام، وخصوصا بعد اندلاع الثورة، مئات آلاف السوريين في زنازين أجهزة استخباراته وسجونه السرية والعلنية، التي تذكر بمعسكرات الاعتقال النازية. وهي أشبه بمسالخ بشرية، يتم فيها تعذيب المعتقلين بطرق وحشية وبربرية، وتجويعهم حتى الموت في حالات كثيرة، حيث أظهرت صور قيصر “سيزر” جزءا يسيراً منها، فيما لا يزال عشرات آلاف المعتقلين يعانون الأمرّين فيها، ومن ينجو منهم تكتب له حياة جديدة، ويصبح في عداد الناجين من الموت. وقد شكل “الناجون من المعقتلات السورية” طيفاً واسعاً من السوريين الذين حملوا خطاب الحريات والحقوق والعدالة، وما زالوا يحملونه، وباتوا يشكلون، حسب مجموعة من السوريين حملت الاسم نفسه، “كل من دخلوا المعتقلات وخرجوا منها أحياء بالصدفة ولم يلينوا”، و”كل الذين ركبوا البحر والبر والجو تفادياً من الاعتقال”، بل و”كل الذين خافوا من المشاركة في الثورة خشية الاعتقال”.
ومنذ بداية الثورة السورية، أنكر النظام الأسدي وجود معتقلين في زنازين معتقلاته، على الرغم من آلاف التقارير والوثائق والفيديوهات والصور والشهادات التي توثق اعتقال مئات آلاف السوريين، وتصفية عديدين منهم. وطالبت منظمات حقوقية عديدة الدخول إليها، لكنه رفض، على الدوام، السماح لأي منظمة دخول معسكرات اعتقاله. وخلال جولات مفاوضات جنيف العديدة، كان النظام يتهرّب من مجرد مناقشة قضية المعتقلين، وبالتالي من الصعب التهكن أن اجتماع “أستانة 7” سيحدث اختراقاً ما في قضية المعتقلين في زنازين النظام، خصوصا وأن الراعيين، الروسي والإيراني، يقفان على الدوام في صف الدفاع عن النظام، ليس عسكريا وسياسياً فقط، بل يدافعان عن جميع الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، ولا يسمحان لأي جهةٍ حقوقيةٍ أو قانونيةٍ أممية إدانة ممارسات النظام وجرائمه، لأنها ستشكل إدانة لهما أيضاً.
ولعل منع نظام الأسد المنظمات الدولية من دخول معتقلاته يعود إلى أنه حوّلها إلى مسالخ تسم قوام نظامه القمعي، حتى باتت بمثابة كابوس يهدّد كل سوري، يحلم بالخلاص من استبداده، وقد انتهك فيها، على الدوام، حرمة الجسد البشري الذي يعتبر احترامه معياراً لوحدة البشر حول القيم الإنسانية المشتركة، حيث ينتهك ما يحصل في معتقلات النظام تلك الحرمة، من خلال ممارسات تؤكد السيطرة الجسدية لأجهزته التي لم تكتف بتقييد حرية حركة المعتقل لديها في حيّز صغير قد لا يتجاوز المتر المربع الواحد في الزنازين المنفردة، بل راحت تمارس مختلف فنون التعذيب الوحشي وطرقه، ولجأت إلى وضع الأجساد الهزيلة للمعتقلين في ما يشبه الأقفاص، كي تكتمل مشهدية الأجساد المكبلة والمهانة التي يكمن معناها في خصوصية التعذيب الجسدي الذي يولّد نوعاً من لذّة لدى السجان الأسدي بالاستمتاع في التسبب في الألم لجسد المعتقل، وهي خصوصية تتجسّد في كراهيته والحقد عليه، وتكشف مركب نقص تعويضي عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
وإن كانت اجتماعات أستانة قد نجحت نسبياً في تبريد جبهات القتال في عدة مناطق من سورية، فذلك يرجع إلى اعتبارات عديدة، لا مجال لذكرها هنا، لكن قضية المعتقلين في زنازين النظام مختلفة تماماً، لأنها أبرز القضايا التي تشكل إدانة دامغة على الممارسات اللاإنسانية لنظام الأسد. لذلك سيعمد وفد النظام إلى اجتماع “أستانة 7” إلى إنكار القضية برمتها، وفي أحسن الأحوال، قد يلجأ إلى حصرها في قضية أسرى بعض مجموعات المعارضة السورية المسلحة، وطمس قضية عشرات آلاف المعتقلين، والأخطر أن يرضى وفد المعارضة بحصر قضية المعتلقين ببعض أسرى الفصائل لدى النظام، خصوصا وأنه قدّم تنازلات عديدة في اجتماعات أستانة السابقة، تجاوباً مع ما تريده أجهزة القوى الدولية الراعية هذه الاجتماعات.
والواقع أن “مسار أستانة” الذي بات يغطي على مسار مفاوضات جنيف، ويحرّكه، يريد الطرف الروسي، ومعه الإيراني، تحويله إلى مسار لإعادة إنتاج نظام الأسد، وتلميع صورته أمام العالم، حيث بات المشهد السوري تختصره مماحكات “خفض التصعيد” التي تتم تحت حراك تقاسم النفوذ في سورية ما بين القوى الدولية والإقليمية، ويصحبه ما يطمح إليه الروس عبر “المصالحات” الإجبارية، التي ستؤسس ما أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تحضيرات لمؤتمر “الشعوب السورية” الذي ينم عن النظرة الروسية لسورية المقسمة، والمؤلفة من عدة شعوب وقوميات بينها، والخوف من أن يطاول ذلك ملف المعتقلين الذي ستعمل كل من روسيا وإيران والنظام على مسخه وطمسه، وبما يؤسس كل ذلك لتكريس التنسيق والتفاهمات بين القوى الدولة والإقليمية، لتطبيقها على الأرض، وفق منطق تقاسم البلد، وتحويله إلى دويلات فاشلة، تتحكّم بها تلك القوى، والضحية الكبرى في ذلك كله هو الشعب السوري وثورته.