حازم الامين – الحياة
في حزيران (يونيو) الفائت عبرتُ من العراق إلى سورية عبر نقطة سيمالكا، على نهر «فيش خابور» على المثلث الحدودي السوري – التركي – العراقي. وهذه من بين نقاط العبور التي يجرى اليوم التفاوض حولها لتتسلمها الحكومة الاتحادية العراقية من البيشمركة الكردية. ومعبر سيمالكا تتكثف فيه الظلامة الكردية، ذاك أنه نقطة افتراق إدارية وسياسية للّحمة الكردية، فمن حوله يفترق الأكراد ملتحقين بالدول التي جار عليهم «سايكس بيكو» بأن يكونوا رعايا فيها: سورية والعراق وتركيا.
ما إن عبرت النهر حتى لاح لي عن يميني حقل الرميلية النفطي الواقع في كردستان السورية، والذي كان «داعش» حاول السيطرة عليه قبل نحو سنتين ضمن حملة عسكرية عكست طموحات التنظيم النفطية، وعن يساري امتد جدار إسمنتي طويل وهائل، هو ذاك الذي شيّدته الحكومة التركية على حدودها مع سورية، فأعاق تواصل الأكراد على طرفي الحدود، لكنه لم يعق حتى وقت قريب تدفق مقاتلي «داعش» عبر هذه الحدود.
وما إن وصلنا إلى مدينة القامشلي حتى انتصبت أمام أعيننا، وفي وسط المدينة، الجزيرة الأمنية التي بقيت للنظام السوري في المدينة، وبقاؤها كان شرطاً فرضه النظام لكي يستمر مطار القامشلي في العمل عبر طائرة تنقل يومياً المواطنين السوريين الأكراد من دمشق وإليها. والمطار يشكل النافذة الرسمية الوحيدة لـ «روج آفا» على الخارج.
في اليوم الثاني، التقيت بألدار خليل، عضو قيادة حزب الاتحاد الديموقراطي المقرب من حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان، وخليل أيضاً المقرر السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية. وأثناء حديثنا أشرت إليه بأن انطباعي الأول أن أكراد سورية محاصرون. سورياً، محاصرون بخوف مواطنيهم العرب من تمددهم إلى المدن العربية في الشمال والشرق السوريين، وإقليم «شمال سورية» الذي يتحدثون عنه يضم مدناً عربية بينها الرقة، وربما لاحقاً دير الزور. وسورياً أيضاً، يجب ألّا يأمنوا لنيات النظام الذي سينقض على تجربتهم فور تغير الظروف.
على حدودهم الهائلة مع تركيا ينتصب الجدار الإسمنتي الهائل، وهو يرمز أيضاً إلى مستوى التوتر الذي أحدثته تجربة أكراد سورية في أنقرة. ويبدو أن الأكراد غير مكترثين لحساسية موقعهم في الداخل التركي، فصور عبدالله أوجلان التي تنتشر في مدن «روج آفا» وقراها لم تجد من يعيق تفشيها على نحو ستاليني وخميني يتصدر فيه وجه الرجل السجين المشهد الـ «روج آفي»، فيحجب أي اعتقاد آخر حول نفوذ حزب العمال الكردستاني التركي في الإقليم العتيد.
حدود أكراد سورية مع العراق هي الأقصر، لكنها أيضاً ليست برداً وسلاماً على الجماعة السورية، ذاك أن للحزب الديموقراطي الكردستاني العراقي حساباته التي لا تتيح له فتح الحدود. فهو لن يستفز تركيا، ضمانته (في حينها) في وجه خصومه العراقيين وغير العراقيين.
يومذاك قلت لخليل أن الواقعية تقضي بفتح ثغرة في هذه الجدران، وأن التجربة لكي تستقيم يجب أن لا تثير هذا المقدار من المخاوف حولها. وأسهبنا في الحديث عن براغماتية أكراد العراق، وعن أن الفيديرالية الكردية هناك سعت إلى أن تُنشئ توازناً إقليمياً حولها. لقد تجنبت استفزاز أنقرة عبر إقصائها جماعة الـ «بي كي كي»، وأقامت علاقات هادئة مع طهران عبر جناح السلطة الثاني المتمثل في الاتحاد الوطني الكرستاني (جلال طالباني)، وتولت إدارة تحالفات متفاوتة مع الجماعات العراقية السنّية والشيعية. وتوجت كل هذا الجهد بعلاقة استراتيجية مع واشنطن، بدا فيها الأكراد الطرف العراقي الثابت الذي يشعر الأميركيون بأنه ركيزة حضورهم في العراق.
لم تمض أسابيع قليلة على هذا الكلام حتى تبدد بلحظة واحدة. فقد أكراد العراق كل الشروط التي أسسوها لتجربتهم. كان المشهد تراجيدياً بالفعل. ولم تحز قضية في المنطقة كلها على إجماع إقليمي ودولي مثلما حاز رفض الاستفتاء على استقلال الإقليم العراقي. فمنذ سنوات مديدة، لم تتقاطع مواقف واشنطن وطهران (المواقف لا المصالح)، إلا أنها تقاطعت هذه المرة. أنقرة أيضاً تخففت من تحفظاتها عن الدور الإيراني في العراق وسورية والتحقت بركب المذعورين من الاستقلال.
التمسك بإجراء الاستقلال كان لحظة أوجلانية عاشها مسعود بارزاني، فالحق إذا ما شُحن بقدر من الشعور القومي أو الأيديولوجي قد يعمي الأنظار، والغريب أن بارزاني أقل أيديولوجية وأكثر براغماتية من نظرائه الأكراد، وعلى رغم ذلك لم يجد سبيلاً إلى التراجع عن الخطوة.
اليوم، ثمة من يتصرف مع الأكراد في العراق بصفته «منتصراً»، وهذا الوعي الانتصاري المُعمم على المنطقة كلها يقابله الأكراد بمحاولات امتصاص تتراوح بين انسحابات تنفذها البيشمركة من المناطق المتنازع عليها، ومحاولات تصدٍّ لجماعات الحشد الشيعي المتمددة والشرهة والمستعينة بأقليات في محيط الأكراد، كالتركمان والإيزيديين. وفي موازاة ذلك، تحمل خطوة مسعود بالتنحي مقداراً من البراغماتية ستساعد من دون شك على معاودة نهوض يرى المرء أنها ضرورية وصحية في منطقة محاصرة بالأوبئة.
يستعيد الأكراد دائماً في لحظات انتكاساتهم مثلاً رائجاً في أوساطهم هو: «لا صديق للأكراد سوى الجبال». يجب أن يكف الأكراد عن ترداد هذا المثل. يجب أن ينحتوا أصدقاء، وهذا ما فعلوه على مدى العقدين السابقين. صحيح أنهم عادوا وبددوه في لحظة تخلٍّ، إلا أن الدرس الذي كان قاسياً، كان كاشفاً خريطة المشاعر التي تحاصرهم. وصحيح أيضاً أن خناجر الأصدقاء كانت أكثر ما أُشهر في وجههم، إلا أن وهم الوحدة الذي ساورهم، ووهم القوة أيضاً، تبددا على مذبح فشل الاستفتاء، وقبله عندما تدفق «داعش» ووصل إلى حدود أربيل.
البناء اليوم يقتضي العمل على خطوط جديدة. الوحدة المتوهمة كانت عاملاً حاسماً في الفشل. وشراكاتهم وتسوياتهم التي عقدوها بعد 2003 مع مذهبيين وفاسدين، والتي أطاحت نتائج انتخابات وأقصت جماعات وقدمت مصالح جهات إقليمية، كانت مدخلاً للمأساة التي ألمت بهم اليوم.
الأرجح أن وجهتهم اليوم أنقرة مجدداً، لكن ذلك سيكون مدخلاً لانقسام جديد، ذاك أن السليمانية تقدّم طهران على أنقرة. ومشهد مسعود وجلال متحاربين في 1996 سيُورث لنيجيرفان وقوباد اللذين يتصدران المشهد الكردي في 2017!
أليس لدى أصدقائنا الأكراد اقتراح مشهد آخر؟