بكر صدقي – القدس العربي
أثارت دعوة موسكو لعقد مؤتمر لـ»شعوب سوريا»، في قاعدة حميميم الروسية في سوريا أو في سوتشي على البحر الأسود، جدلاً واسعاً بين السوريين بمختلف مشاربهم، غلب عليه الرفض والاستنكار. وإذا كان رفض معارضي نظام الكيماوي ينطلق أساساً من اعتبارهم للجهة الداعية، روسيا، قوة احتلال أجنبية تدعم بقاء النظام في السلطة وتعمل على التفرد بتقرير مصير بلادهم، فاعتراضهم على اسم المؤتمر أيضاً لم يكن هامشياً.
وفي غياب حرية التعبير لدى مؤيدي النظام يمكن الافتراض أنهم سيرفضون المؤتمر أيضاً، شكلاً ومضموناً، سواء بدعاوى «الوحدة الوطنية» التي لا تقبل النظر إلى المجتمع السوري بوصفه تجمعاً لشعوب مختلفة الثقافات والميول والتطلعات، أو بدعوى «التجانس» التي تباهى رأس النظام الكيماوي، قبل حين، بأن الحرب أدت إليه، أو من منطلق شيطنة وتخوين كل من هو خارج دائرة الولاء المطلق التي تتبناها القاعدة الاجتماعية الصلبة للنظام.
هذا في الشكل، أما في مضمون المؤتمر فهو، في أحسن تقديرات الموالاة، سيعني الاعتراف بشرعية «شعوب» أخرى غير شعب النظام الأسدي المتجانس المختار، والجلوس مع ممثليها على طاولة واحدة للتباحث في مصير البلاد. وفي أسوأها السماح بمشاركة تلك «الشعوب» في صياغة دستور لسوريا يأخذ بعين الاعتبار وجودها وتنوعها. ما قد يخفف من هذا الرفض هو ثقة الموالين النسبية بروسيا، وبأن كل مبادراتها السياسية بشأن سوريا قد لا تعدو كونها طبخة بحص، الغاية منها تمرير الوقت وتمييع مسار التسوية السياسية في جنيف والتغطية على الهدف الروسي الحقيقي في إعادة تأهيل نظامهم.
أما في ضفة معارضي النظام، فيقوم رفض فكرة وجود شعوب سورية، على أساس أيديولوجي يلخصه شعار من الأيام المبكرة للثورة السلمية هو شعار «الشعب السوري واحد»، وينضوي في إطار ما يسمى بدولة المواطنة المتساوية التي تواجه فكرة «المكونات» من أساسها. وإذا حدث واعترفت بوجودها، فهي لا تعترف بوجوب الاعتراف بحقوق للجماعات، بموازاة الحقوق المعترف بها للأفراد. وكلاهما، بالطبع، في الإطار النظري المحض، أي هي مجرد تصورات لتيارات سياسية معينة، يصدف أنها الأضعف، فوق ذلك، في الحراك الثوري العريض، وعنيت بها التيارات غير الإسلامية.
اللافت، بين هذه التيارات، هو التيار القومي العربي الذي يستخدم ورقة «دولة المواطنة المتساوية» بصورة أداتية لرفض أي اقتراح يتعلق بحقوق الجماعة الكردية في سوريا. ذلك لأن هذه الورقة تتعارض جبهياً مع الأشكال المعروفة للإيديولوجية القومية العربية القائمة على إنكار التنوع الاجتماعي العرقي والثقافي وعابرة للحدود الوطنية المرذولة بوصفها «حدوداً قطرية».
غير أن الأمر لا يقتصر على النتوء الكردي المزعج للتيار القومي، بل يشمل كذلك رفض النظر إلى جماعات أخرى، عرقية أو دينية أو مذهبية، بوصفها جماعات سياسية لها هواجس وتطلعات خاصة بها نابعة من هويتها الجمعية، أي من نظرتها إلى نفسها ونظرة الجماعات الأخرى إليها، الأمر الذي ينطبق، بأشكال ودرجات مختلفة على المسيحيين والعلويين والدروز والمسلمين السنة وغيرها من الجماعات الأصغر حجماً. نتذكر بهذا الصدد النقد العنيف الذي ووجه به المفكر الراحل صادق جلال العظم حين تحدث عن «العلوية السياسية».
إذا كانت شعارات الثورة في بداياتها السلمية قد عبرت عما يمكن أن يشكل تطلعات مشتركة للسوريين بمختلف انتماءاتهم الأهلية والسياسية والطبقية، فلم يمض وقت طويل حتى أخذ السوريون يكتشفون أن معنى الحرية يختلف باختلاف من يتحدثون عنها أو يطالبون بها، وكذا فيما يتعلق بمعاني الكرامة والأمان والرفاه الاجتماعي والشفافية وغيرها مما انتفضوا من أجل الوصول إليها. بل يتعدى أمر اختلاف السوريين هذه المفاهيم المجردة إلى المفاهيم السياسية نفسها، كالديمقراطية ودولة المؤسسات والمركزية / اللامركزية الإداريتين وغيرها. حتى شعار إسقاط النظام نفسه، وهو مفهوم سالب أساساً لا يقول شيئاً عما بعد إسقاط النظام، تم الخلاف حول صياغته بين كياني المعارضة الرئيسيين، في ذلك الوقت، المجلس الوطني وهيئة التنسيق، إضافة إلى الأحزاب الكردية التي تعاملت بدورها بحساسية خاصة مع هذا الشعار.
لكن كل هذه التباينات باتت خلفنا منذ زمن بعيد، وظهرت تباينات أكثر خطورة بكثير مع انتشار التسلح الأهلي وصعود التيارات الإسلامية التي أخذت الثورة في اتجاهات بعيدة عن منطلقاتها «البريئة». ومع غياب أي أفق لانتصار حاسم لأحد طرفي الصراع، وكذا لأي حل سياسي يوقف شلال الدم، وتدويل القضية السورية وصولاً إلى إلغاء داخلها الوطني، اندفعت الأمور بسرعة نحو تفكك اجتماعي استعاد التنوع الأصلي لمكونات موجودة، ودفع بها إلى استقطابات سياسية حادة (لها وجه عسكري غالب) لا تقبل التعايش في كيان سياسي واحد، وإن ادعت جميعاً عكس ذلك. الغريب في الأمر أن الثقافة الاجتماعية السورية المشبعة بفكرة تآمر القوى الدولية لتقسيم سوريا، ما زالت راسخة على رغم أن القوى الدولية الفاعلة أظهرت، في مناسبات كثيرة، تمسكها بالحدود القائمة منذ سايكس بيكو. في حين أن الديناميات الاجتماعية للصراع في سوريا دفعت باتجاه التفكك العملي للمكونات، سياسية كانت أو أهلية.
أي أننا في الواقع أمام شيئين متناقضين: تفكك فعلي للمكونات، مقابل هواجس التقسيم التي لا أساس يبررها. نعم، نحن شعوب، حتى لو قالها المحتل الروسي، ولسنا شعباً واحداً. لكن «المجتمع الدولي» ما زال مصراً على تسييجنا في إطار واحد محدد بحدود سايكس بيكو المتقادمة.