نور الدين ويسي – الحياة
من يراقب تصريحات المسؤولين العراقيين لا سيما رئيس الوزراء حيدر العبادي، والصحافة بخاصة الرسمية منها، يُدهشه حجم التراجع حتى عن حقوق شكلية للكرد في الدستور، مما يتشدق به المسؤولون. وبعد سيطرة القوات العراقية والميليشيات المدعومة من إيران على المناطق المتنازع عليها، دأب هؤلاء على استخدام مصطلح «شمال العراق الحبيب»، بدل إقليم كردستان! وهو مصطلح كان يطلقه النظام البعثي الصدامي لإنكار الحقوق والهوية القومية – الجغرافية للمنطقة الشمالية في العراق!
تبدّل لهجة المسؤولين مؤشّر إلى أنهم لا يؤمنون إطلاقاً بالحقوق القومية الكردية. يوضّح هذا ما يُبث ويُنشر ويُضخّ يومياً في وسائل الإعلام. أما اعترافهم في السنوات القليلة الماضية ببعض حقوق الكُرد، فانكشف أنه لم يكن عن قناعة، إنما على مضض، وكان تورية وتقية. إذ لا يوجد تفسير آخر لتغيّر لهجتهم فجأة بعد شعورهم بنشوة النصر المزعوم.
ما حصل خلال الأسابيع الماضية من سيطرة القوات العراقية على مناطق متنازع عليها، وما سبقه أو أعقبه من انسحاب البيشمركة، أصاب الحكومة والميليشيات الإيرانية التابعة لها بغرور غير مسبوق، وكأن القوات العراقية هي التي حررت تلك المناطق، كما يزعم الإعلام العراقي، وليس الاستقواء بالدعم الخارجي، بخاصة الإيراني.
بسالة البيشمركة تشهد عليها تقارير دولية أميركية وأوروبية محايدة، وليست في حاجة إلى شهادات من سلّموا الموصل والأنبار لتنظيم «داعش» الإرهابي. ببساطة، ما حدث كان نتيجة اتفاق أبرمه جناح عائلة طالباني في «الاتحاد الوطني» وقاسم سليماني والحكومة العراقية، ما دفع البيشمركة الى عدم إبداء أي مقاومة تذكر. فالقوات العراقية ليست بهذه القوة حتى تسيطر على تلك الأراضي بهذه السهولة. ومعروف للقاصي والداني كيف تبخّر الجيش العراقي مقابل هجوم بضع مئات من مسلحي «داعش» في الموصل وما حولها، لتستغرق مدة استعادتها عاماً كاملاً، على رغم دعم التحالف الدولي، وقوات البيشمركة أيضاً.
ولم يكن الاستفتاء في كردستان إلا ذريعة للهجوم على كردستان. وحين وجّه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي فوهات مدافعه ودباباته للمناطق المتنازع عليها، لم يتطرق أحد من المسؤولين العراقيين الى الاستفتاء. وقرر المالكي قطع حصة كردستان من موازنة المالية العامّة لسنة 2013، ولم يتحدث أحد عن الاستفتاء.
ما تفرضه بغداد من أمر واقع بقوة الميليشيات الإيرانية انتهاك صارخ للدستور الذي تتشدق به، فضلاً عن أن هذا الدستور الذي يتباكون عليه، يحظر إقحام الجيش في الصراعات الداخلية، وينصّ أيضاً على أن المناطق التي هاجمتها القوات العراقية وميليشيات الحشد الشعبي متنازع عليها، وستبقى، الى أن يُحسم أمرها دستورياً، وهو ما كررته الخارجية الأميركية مؤخراً.
ما تقوم به القوات العراقية وميليشياتها في مناطق سيطرتها، بخاصة طوزخورماتو وكركوك، من قتل وحرق وتدمير منازل وانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان وملاحقة للصحافيين، إشارة واضحة إلى أن بغداد لا تتعامل مع مواطني تلك المناطق بوصفهم عراقيين. وما نتحدث به يستند الى تقارير متواترة لمنظمة العفو الدولية، ومنظمات إنسانية أخرى، كما اعترفت بها جهات عراقية حكومية كوزارة الهجرة والمهجرين.
ولم تكتفِ بغداد بالسيطرة على المناطق المتنازع عليها، بل هي توحي بأنها ستغلق قناة «كردستان 24» بعدما اتهمتها اتهامات لا صحة لها. كما لم تتقصّ حادثة مقتل المصور الصحافي في قناة «كردستان تي.في»، اركان شريف، قرب كركوك، كأنه ليس عراقياً؟!
تزعم الحكومة أن القنوات الكردية التي عرضت فظائع الحشد الشعبي «تهدد السلم الأهلي»، فماذا عمن قام بالهدم والحرق والسلب والنهب والاختطاف في مناطق النزاع، وعن مقتل حوالى 600 شخص فيها، وفقاً لإحصاءات حكومة كردستان ومنظمات إنسانية محلية؟ وماذا عن وسائل إعلام عراقية تحرّض على قتل الكرد على مدار الساعة؟!
الأنكى أن تتهم بغدادُ إقليمَ كردستان بالفساد، بينما لا يزال العراق يتصدر لائحة الدول الفاسدة كل عام، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية. وفي العراق الذي تصوره الحكومة على أنه سويسرا، هناك مسؤولون كثيرون ثبت عليهم الفساد، لا يتسع هذا المقام لذكر أسمائهم.
وهكذا يحار المرء في معرفة حقيقة العراق الذي يتحدثون عنه ويتغنون به ويتباكون على موارده وسيادته ووحدة أراضيه، فيما سجله حافل بانتهاكات حقوق الإنسان والحريات الدينية. فعن أي عراق يتحدثون، وهم الذين وضعوه على لوائح الدول الفاسدة، وجعلوا بغداد أسوأ مدن العالم، ناهيكم بالنزوح والبطالة والطائفية التي تنخره طولاً وعرضاً. وما لم يحترم المسؤولون الدستورَ الذي صوّت عليه حوالى 80 في المئة من الشعب فسيبقى العراقيون في هذا الجحيم.