حازم صاغية
مع سقوط مدينة كركوك في يد السلطة العراقيّة، ظهرت على بعض الأوساط العربيّة في العراق، وربّما خارجه، علامات اعتزاز وفخار: لقد انتصر العرب على الأكراد. والانتصار على أقلّيّة ضعيفة كالأكراد ليس سبباً للاعتزاز الكريم، سيّما وأنّ تاريخ العراق منذ الانتصار على الأشوريّين، بذبحهم، هو تاريخ اعتزاز غير كريم.
فكيف وأنّ هذا الانتصار إيرانيّ قبل أن يكون عراقيّاً، وأكثر منه عراقيّاً، ناهيك عن دعم العالم كلّه له بأدوات شتّى مادّيّة ومعنويّة، عسكريّة وسياسيّة؟
أسوأ ممّا عداه ذاك التلازم بين انتصار العراق على أكراد الشمال وكون العراق نفسه مجزّأً ومتصارعاً، لا يزيده الانتصار على الأكراد إلاّ تجزّؤاً وتصارعاً. يكفي التدقيق في العلاقات السنّيّة – الشيعيّة لليأس من أيّ احتمال واعد. والوهم المحض هو وحده ما يُغري بافتراض أنّ العروبة (أي في هذا الظرف المحدّد مناهضة الأكراد) سوف توحّد السنّة والشيعة قفزاً فوق كلّ شيء. أسماء ساطع الحصري وفاضل الجمالي ومحمّد مهدي الجواهري وياسين الهاشمي وسواهم تبقى رموز تنازع أهليّ سبقت بعشرات السنين النظام الصدّاميّ الذي ضربها بألف.
والشيء نفسه يقال عن الأوهام التي قد تنبعث من «استعادة البوكمال» بوصفها استعادة للطريق «القوميّة» المفتوحة بين سوريّة والعراق. والطريق هذه، في ظلّ الوعي القوميّ الشهير، لا تعدو كونها انسداداً محكَماً – انسداداً بدأ بتنافر الضبّاط «القوميّين» السوريّين والعراقيّين إبّان دولة الأمير فيصل في دمشق، ليتوّجَهُ نزاع «القوميّين» صدّام حسين وحافظ الأسد على مدى سنوات حكمهما الكثيرة.
أمّا إسباغ العروبة على الانتصار الأخير فيشبه وليمة من بقايا الأكل البائت. ذاك أنّ انتصار العروبة هو ما ينبغي أن يقاس على حروب العروبة، وذلك بعد أشهر قليلة على الذكرى الخمسين لهزيمة حزيران (يونيو) 1967. وفي قياس عروبيّ آخر، يُستحسن النظر إلى حال العالم العربيّ اليوم، حيث لا يطيق أحد أحداً، ولا يضمر أحد أقلّ من الموت والتهلكة للأحد الآخر. والعراق اليوم أحد أهمّ فراديس هذه المشاعر «القوميّة» و»الأخويّة»، إن لم يكن فردوسها الأهمّ.
تاريخ العراق، إذا شئنا الدقّة، يملك من الحساسيّة الانفجاريّة ما يُفترض أن يعصم من هذه القوميّة البلهاء التي تؤسّس لدمار بعد دمار. وبعد كلّ حساب، فإنّ سنوات قليلة نسبيّاً هي التي تفصلنا عن عهد صدّام، رجل القوميّتين العربيّة والعراقيّة، الذي حوّل البلد إلى مقابر، وزرع المقابر في جواره، فيما كان «يحرس البوّابة الشرقيّة للوطن العربيّ» أو «يعيد الفرع (الكويتيّ) إلى الأصل».
وهذه عبرة للأكراد بدورهم. فهم أيضاً ينبغي أن يحاذروا اللعبة الخطرة هذه، لعبة القوميّة المجنونة والكاذبة، سيّما وهم يرونها في تجربة جيرانهم العرب على شكل كوارث وشظايا.