سميرة المسالمة
تنتهج روسيا سياسة الخطوات التراكمية في تثبيت امتلاكها للملف السوري، أمام حلفائها من جهة، وأمام المجتمع الدولي من جهة ثانية، وهي لا تنتظر من السوريين، نظاماً ومعارضة، موافقات معلنة على سلوكها، بقدر ما تريد أن تؤكد للمتصارعين على سورية أن تقاسم الغنائم يمر من خلال جملة تفاهماتها وخصوماتها مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي تحصد خضوع النظام أكثر لإملاءاتها عندما تشتد لهجة الخطاب الأميركي ضده.
كذلك الأمر من ناحية إيران الحليفة الأولى والأكثر أهمية للنظام، وعلى رغم امتلاكها القوة الضاربة على الأرض السورية (مساحة النظام)، إلا أنها تعاني التضييق الدولي عليها، نتيجة ممارساتها العدوانية في المحيط العربي المجاور لها، وتدخلاتها في قلب أولويات الدول العربية من المواجهة مع إسرائيل، إلى مواجهة مشروعها الطائفي في كل من العراق واليمن ولبنان وسورية، مما جعلها اليوم تحتمي بالعباءة الروسية لضمان وجودها في سورية، واستمرارها من خلال موقعها في التلاعب بالشأن المحلي في الدول المحيطة بها.
والأهم من ذلك أن موسكو استطاعت أن تضم أنقرة إليها، كحليف يساندها في خصوماتها مع واشنطن، التي تراها تركيا حليفة لخصومها المحليين (الانقلابيين)، ولخصومها غير الأتراك من الكرد السوريين المرتبطين بحسب زعمها بالمعارض (المعتقل عبدالله أوجلان) قائد حزب العمال الكردستاني، وفي توافقاتها مع إيران تحت مسمى الحرب على المشروع الانفصالي الكردي شمال سورية، وبذلك توافرت لروسيا ركيزتان أساسيتان واحدة تدعم النظام، والأخرى تدعم المعارضة السورية وتحتضن أهم قياداتها المسلحة.
وعلى ما تقدم تبني روسيا خطواتها في عملية إعادة صياغة مشروع الحل في سورية، بدءاً من تغيير مواقع الخصوم والأصدقاء في المعادلة الروسية، في محاولة منها لمقايضة ذلك بتخفيف الضغط الدولي عليها ورفع العقوبات التكنولوجية والاقتصادية عنها، واستعادة دورها كقطب مواز للقطب الأميركي عالمياً، وتماشياً مع استثمار حالة الانسحاب الأميركي من الصراع المباشر في سورية، إلى مجرد رعاية المصالح الأميركية عبر وكلاء لها في الشمال والجنوب، وعبر الرغبة الروسية الجامحة في تقديم نفسها راعية للحرب والسلام في سورية، مما يهيئ اليوم فرص نجاحها في تجاوز العقبة الأممية التي تحصر حل الصراع في سورية عبر مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، ويدعمه المجتمع الدولي، ويتطلع إليه معارضو النظام كمخلص لهم من نظام الأسد، بينما يجهد النظام بعرقلته وتوفير حجج الخلاص من مساره، وبين رغبة موسكو في الحفاظ على شعرة ارتباطها بالمجتمع الدولي ومساره جنيف، لحل الصراع في سورية، ورغبتها في حرف طريق المفاوضات لتمر عبر موسكو، كان مسار آستانة المعبر السالك إلى ما بعده في قمة سوتشي.
وضمن ذلك يمكن وضع التساؤل أمام روسيا وإيران وتركيا عن نجاحات آستانة المزعومة، ومدى صحة ما يطلق من تصريحات حول ذلك، فهل فعلياً استطاعت الدول الضامنة فرض خفض التصعيد على النظام ضمن مساحات اتفاقات آستانة؟ إذا كان التبرير بأن حجم العنف المرتكب من النظام وحلفائه روسيا وإيران قد تقلص، فإن واقع الحال في الغوطة وإدلب ووسط البلاد وشمالها يبدد هذا الادعاء، باستثناء الجنوب وهو الخاضع لاتفاق خارج آستانة وأحد ضامنيه هو الولايات المتحدة الأميركية، ما يجعل مسار آستانة- الذي تجاهله عن عمد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في لقاءاته، وحديثه المقتضب مع الرئيس الروسي، وبالتالي في بيانهما المشترك من فيتنام- تحت تهديد الانهيار عندما تقرر أميركا ذلك، أو عندما تنهي لعبة إغراق الجميع في وحل الحرب الدامية، وتستعد لإطلاق مشروعها الشرق أوسطي في نسخته النهائية، التي تحدد فيها حدود إيران المذهبية، وتلزمها التقوقع بعيداً من حدود إسرائيل من جانب، وداخل مشروعها الطائفي المهيمن على مقدرات الشعب الإيراني من جانب آخر، وهو ما تبدو ملامحه واضحة اليوم من خلال التضييق على ذراعها «حزب الله» في لبنان، وفرض مزيد من العقوبات عليها، وتهيئة الأجواء الدولية لعودة الحصار كوسيلة ردع لمخططاتها الاستعمارية في المنطقة العربية.
ومن هنا يمكن الحديث عن المخاوف المتصاعدة من المسارات الجانبية التي تختلقها روسيا، لخلط الأوراق الدولية وانتزاع صفة الشرعية عن القرارات الأممية ذات الصلة بالصراع السوري، بدءاً من بيان جنيف 1، ووصولاً إلى القرارين 2118 و2254، والتعامل مع الصراع على أنه خلاف على تقاسم السلطة، وليس على تغيير النظام، وبناء نظام ديموقراطي يحقق العدالة بين المواطنين والقوميات، لتوفير حياة آمنة وكريمة للجميع.
ولهذا كان مبرراً الاصطفاف ضد مسار سياسي جديد في سوتشي أو الحوار الوطني، أو تحت أي تسمية جديدة أو تبريرات لوجود هذا المسار أصلاً، في ظل دعوة الأمم المتحدة لإطلاق جولة محادثات جديدة في جنيف.
إن السعي لخلق التفاهمات بين السوريين في صورته المشهدية يمكن أن يكون عملاً له جوانبه الإيجابية، لكن عندما تكون دروبه معبدة بمصالح غير السوريين، وهدفها إراقة القرارات الدولية التي دفع السوريون أرواحهم وأملاكهم ثمناً لانتزاعها من المجتمع الدولي، فإن إيجابيات المسار المقبل (سوتشي) هي مجرد استعراض روسيا لتحالفاتها الجديدة، التي انقلبت من عداوة إلى صداقة (العلاقات الروسية- التركية)، ومن تنافس إلى تكامل في الأدوار والتوظيفات (العلاقات الروسية- الإيرانية)، كما أنها في الآن نفسه استعراض لكل من هذه الدول وقدرته على فرض المشاركة على الكيانات المعارضة والموالية في الآن ذاته.
وعلى ذلك أمام قوى المعارضة اختبارات صعبة، فهي التي صرحت بمقاطعة مؤتمر سوتشي وأجنداته «المشبوهة»، وهي التي تقف اليوم أمام مرآة آستانة التي منحت الروس فرصة التمادي على المسار الأممي في جنيف، وسمحت لها بالتعاطي مع الدول الصديقة للمعارضة من باب توزيع الغنائم أو حجبها، مما يحمل هذه القوى مسؤولية مضاعفة، وهي تتلقى دعوة حضور مؤتمر سوتشي والدخول بلعبة «الدوبلة» بحسب التعبير الشعبي على جولات جنيف وما يستند إليه من قرارات دولية ذات صلة.
في حقيقة الأمر إذا اعترفنا أننا حتى اللحظة لم ندخل إلى مفاوضات حقيقية بين السوريين معارضة ونظاماً، فإن هذا الاعتراف يضعنا أمام سؤال الرماديين في قرارهم من مسألة المشاركة في حوار سوتشي أو أي اسم آخر تبتدعه موسكو: ما الذي يجعلهم يرفضون الخوض في تجربة مباشرة، ليست جديدة بشكلها، فآستانة جمعت الطرفين في لقاء مواجهة، لكنها جديدة في حضورها وتنوعها، وربما في حجم الانكسارات التي ستواجهها العملية التفاوضية برمتها، لتنتقل من مفاوضات سلام تحت رعاية دولية، إلى تسويات بين «مكونات»، بالأصل لم تكن هي موضوع الخلاف ولا أصله، لأن الأساسي والثابت في أسباب الثورة هو ما تعرض له السوريون من ظلم، وصل حتى أظافر أولادهم في جنوب بلادهم كما في شماله وشرقه وغربه. هي سوتشي أو غيرها، من متممات الحل الروسي، وصولاً إلى الجلسة النهائية مع صاحبة الكلمة العليا الولايات المتحدة الأميركية حتى عندما تكون صامتة.