أكرم البني
… والمحنة لا تتعلق فقط بأجواء العنف والقتل ومناظر القهر والإذلال التي تروعنا يومياً، أو بالانتهاكات الشديدة لحقوق الإنسان في الحياة والحرية والمساواة، والتي فاقت، في بلدان الربيع العربي عموماً وسورية خصوصاً، كل الحدود، وإنما أساساً بالتحولات السلبية التي طرأت على المناخ المفترض أن يرعى حقوق الإنسان كي تثبت وترسخ وتحتل المكانة التي تليق بها، كقيمة طبيعية وحيوية من قيم الذات البشرية.
في ما مضى، وبعد خمود الاستقطابات الحادة التي لازمت الحرب الباردة، وبدء الترويج الأميركي لمشروع نشر الديموقراطية رداً على تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001، بدا أن حقوق الإنسان تتقدم كعامل ناجع في ضمان استقرار المجتمعات وتنمية قدراتها ومحاصرة نزعات التطرف والتعصب، ما ساهم في شيوع الأفكار الديموقراطية وتنامي حس إنساني عالمي يأنف العنف ويدعو لاعتماد المعايير المشتركة لحقوق الإنسان في محاكمة شرعية الأنظمة وأساليب الصراع السياسي.
لكن هذا التطور الحضاري تلقى، قبل أن ينضج أو يستقر، صفعة قوية وقد نجحت عقلية القوة والغلبة في جر البشرية إلى ماضيها المؤلم، إلى العنف والحروب، وإلى المناخات التي تسوغ ازدراء حياة الإنسان والاستهتار بحقوقه، عززت هذه الصفعة، العودة لتغليب الخيار الأمني في مواجهة الإرهاب الإسلاموي والانخراط الدولي في حرب جماعية للنيل منه، وإن على حساب حيوات البشر وحقوقهم، ثم تقدم نزعات شعبوية وعنصرية في البلدان الغربية يحدوها نخب تتغنى بفرادة مجتمعاتها، لتبرر تخليها عن دورها وواجبها الأمميين في حماية البشر من الانتهاكات التي يتعرضون لها.
وفي ما مضى، كان أمراً خطيراً ومؤذياً لمبادئ حقوق الإنسان توظيفها انتقائياً، حيث ضخمت بعض الانتهاكات وغض الطرف عن أخرى، لغايات ومصالح سياسية، لكن الأخطر اليوم، هو التخلي عن حقيقة تقول، أن الديكتاتورية والتخلف والفساد هي مرتع الإرهاب، وأن دعم الديموقراطية والحريات السياسية وتنمية المجتمعات اقتصادياً وتعليمياً هما الخيار المجدي لتجفيف منابعه وسحب البساط من تحت أقدام قوى التعصب والتطرف، والأخطر تنامي مزاعم التمييز بين المجتمعات والطعن بفرص بعضها في الارتقاء الحضاري، كذريعة للتنصل من الالتزام بشرعة حقوق الإنسان التي يتعين أن يتمتع بها البشر كافة، بغض النظر عن أصولهم وقومياتهم وأديانهم وأجناسهم وأفكارهم.
تعززت هذه التحولات عربياً، بعودة مريعة للعقلية الأيديولوجية الوصائية، وانتعاش الثقافة المشوهة التي دأبت على خلق تعارض مستحكم بين حقوق الإنسان وبين المرجعيات الأيديولوجية والسياسية، بما هو انتعاش للحجج والذرائع المغرضة التي ابتكرتها وروجتها السلطات المستبدة لتسويغ حرمان الناس من حقوقهم.
وللأسف، أفضت الحصيلة المخيبة للآمال، وطنياً وحقوقياً وتنموياً، للأيديولوجيتين القومية والاشتراكية حين قادتا مجتمعاتنا، إلى منح الخيار الأيديولوجي والسياسي الديني فرصة تاريخية لتجريب حظه، وهو الخيار الذي يتناقض بنيوياً مع شرعة حقوق الإنسان ما دامت تمكن البشر من تقرير مصائرهم وتمنحهم الحرية في اختيار معتقداتهم وما يؤمنون به.
والأمر لم يتجلّ فقط في تنامي نفوذ الإسلام السني الجهادي، كتنظيم «داعش» وجماعة «القاعدة»، المعاديين للحرية والديموقراطية، والذين أججت عملياتهما الإرهابية بحق المدنيين الغربيين مشاعر الغضب والتمييز والانغلاق بين المجتمعات، وإنما أيضاً بالحضور والنفوذ المتماديين لوجهه الشيعي، حيث انتـــشرت ميليشياته المتعصبة العابرة الأوطان، من اليمن والبحرين إلى العراق وسورية، مبيحة، من أجل نصرة مشروعها المذهبي، حيوات الناس وحقوقهم ومصائرهم، من دون أن تتردد باستخدام أساليب التنكيل والتهجير ضد المختلفين مذهبياً في سورية والعراق، أو توفر الحليف الكردي حين تقدم خطوة نحو حلمه القومية، ثم الحليف اليمني، حيث لم يرف لجماعة الحوثيين جفن عند اغتيال علي عبدالله صالح والفتك بقادة المؤتمر الشعبي وكوادره، على أنه تنفيذ لإرادة الله وشرعة الدين!
والأنكى أن التداعيات السلبية للربيع العربي والنفوذ الذي حققه محور الممانعة في سورية والعراق، شجعا على إعادة الفزاعة الإسرائيلية إلى الواجهة، وأنعشا إلقاء تهم العمالة والخيانة جزافاً ضد مناهضي هذا المحور وتوظيفها لفرض استبداده وتسويغ حرمان الإنسان العربي من حقوقه.
وزاد طين التحولات المناهضة لحقوق الإنسان بلة، عدم استثمار الفرصة التي سنحت لنشر ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها في مجتمعاتنا… إن من جانب المنظمات الحقوقية التي تعي أكثر من غيرها دور المصالح والأغراض السياسية في الموقف من حقوق الإنسان، حيث لم تبذل جهداً استباقياً لاستثمار تلك الفرصة في تمكين الجمعيات المدنية والتيارات الديموقراطية، وفي تسخير تطور وسائل التواصل والتفاعل من أجل التأسيس لما يشبه شبكة عالمية واسعة تنادي بواجب تطبيق المعايير المشتركة لحقوق الإنسان وتطالب بمحاصرة وردع كل من ينتهكها… وإن من جانب المعارضات السياسية، التي انزلقت في غالبيتها وراء الحسابات الآنية ولعبة توازنات القوى وأحجمت عن إحداث فك ارتباط مع أفكار الماضي وتصوراته، وعن الإفادة من نقد الذات والعقليات الأيديولوجية، لتأكيد أن السبب الرئيس لحالتي الضعف والتفكك اللتين أصابتا المجتمعات العربية هو الاستمرار في تهميش الإنسان وتغييب دوره، بما هو تأكيد الترابط الوثيق بين نصرة الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وبين استقرار الحياة السياسية ونجاح التنمية الاجتماعية والاقتصادية والارتقاء الحضاري.
تمر ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ربما كي تذكر السوريين كيف خذلهم المجتمع الدولي، وخان شرعته ومبادئه، وتنصل من أداء واجبه الإنساني البسيط في حماية المدنيين العزل من آلة موت ودمار عملت بأقصى طاقتها من دون أن توفر السلاح الكيماوي المحرم دولياً، وربما كي تذكرهم بما يعانيه اللاجئون السوريون بخاصة أطفالهم مع تراجع فرص دعمهم تعليمياً وصحياً، وتنامي حالات اضطهادهم وإذلالهم في بلدان اللجوء، ولتذكرهم أيضاً بأنه في هذا اليوم بالذات، تم على يد جماعة اسلاموية معارضة اختطاف وتغييب الناشطين الحقوقيين المميزين الأربعة، رزان زيتونة وسميرة خليل ووائل الحمادة وناظم حمادي.