سميرة المسالمة
يتداول بعض أطياف المعارضة ووسائل الإعلام اسم فاروق الشرع، النائب السابق لرئيس النظام السوري، كرئيس لمؤتمر سوتشي، المزمع عقده في شباط (فبراير) المقبل برعاية روسية، بعد توافقات تركية وإيرانية. ويأتي هذا التداول المبكّر في سياق حملة ترويجية للمؤتمر، على رغم عدم وجود ما يؤكد موافقة صاحب العلاقة أو رفضه، وهو الذي كان اختار الصمت مبتعداً عن أروقة العمل السياسي، كحال كل المبعدين من القيادات السابقة في سورية، سواء أولئك العاملين ضمن منظومة قيادة حزب البعث الحاكم، أوحتى في مجالات العمل التنفيذي، الذي لا يفصله عن العمل الحزبي سوى خيط وهمي غير مرئي لكثير من السوريين.
ترشيح الشرع أتى من كل من المعارضين خالد محاميد نائب رئيس وفد المعارضة حالياً، وهيثم مناع رئيس تيار «قمح» (الرئيس المشترك السابق لـ «مجلس سورية الديموقراطية»، التحالف العربي- الكردي)، خلال اجتماع ضمهما مع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف ومبعوث وزير الخارجية الروسي للتسوية في الشرق الأوسط سيرغي فيرشينين منتصف الشهر الماضي في موسكو، في محاولة منهما لطرح اسم شخصية تمكن المراهنة أو الإجماع عليها خلال المرحلة الانتقالية، بعد تعذّر قدرة المعارضة على فرز شخصية منها تجمع عليها كل أطيافها، وفي الوقت ذاته يمكنها أن تكون إحدى شخصيات النظام، التي لم تنغمس في الحرب المعلنة على الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي انطلقت من درعا، المدينة التي ينحدر منها الشرع، في آذار (مارس) 2011.
بيد أن المراهنة على صمت النظام ورئيسه حيال هذه التسريبات والأخبار المتداولة يعيدنا إلى البحث في الأسباب التي أدت فعلياً إلى إزاحة الشرع من منصبه، رغم ما كان يتميز به من مكانة لدى نظام الأسد (الأب والابن)، حيث بدأت أوساط النظام تتساءل عن موقفه الحقيقي من الثورة بعد اللقاء التشاوري الذي ترأسه في فندق «صحارى» (قرب دمشق)، في 10 تموز (يوليو) 2011، وأعلن خلاله أن سورية مستعدة للانتقال إلى دولة تعددية ديموقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة، وبالمشاركة في صياغة مستقبل سورية، وجهر آنذاك بالموافقة على مقترحات بإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري، التي تلغي حكم البعث لسورية، وهو الأمر الذي بدّد على ما يبدو مكانته لدى النظام لأنها جاءت إعلانا مسبقاً وضع النظام وقتها، في حرج ولم يعد أمامه إلا التعامل مع هذا الوعد، ما قاده إلى إعداد دستور جديد (2012) ألغى من خلاله هذه المادة، ولو نظرياً، لكنه في المقابل كبّل السوريين بمواصفات رئاسية تتطابق على شخص رئيسه، بحيث تعيد له من جديد حق الترشح لمرتين متتاليتين بدءاً من عام 2014، وهو ما بات يدافع عنه النظام بإصرار، كما شهدنا خلال الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدعم من حليفتيه روسيا وإيران.
وعلى رغم عدم تعاطي النظام إعلامياً مع مؤتمر سوتشي، الذي تتبناه روسيا، ومع ما يحيط به من شائعات، ومنها رئاسة الشرع له، إلا أن وفد النظام استخدمه ضمنياً كفزاعة في وجه المعارضة، التي بدأ يملي عليها شروطه، التي وصلت إلى حد مطالبته لها بسحب بيان الرياض2 من التداول، معتبراً أن ما جاء في هذا البيان حول مصير الأسد «شرط مسبق ومرفوض»، في الوقت الذي تجتهد فيه المعارضة للحفاظ على شعرة معاوية لإبقاء العملية التفاوضية قائمة في جنيف خوفاً من أن يصبح سوتشي ممراً إجبارياً للتفاوض مع النظام.
يستنتج من ذلك أن نظام الأسد يريد أن تأتي صياغة وثائق المعارضة بحسب المقاس الذي يناسب خطته لمجرد الحوار، وليس للتفاوض، وأن خياراته لا زالت مفتوحة، بسبب الدعم اللامحدود من حلفائه الذين يزدادون مرحلة إثر مرحلة، بانتقال الصراع على الملفات، من ملف الصراع السياسي بين المعارضة والنظام إلى ملف المصالح الإقليمية لدول الجوار، ومن تحالف أصدقاء الشعب السوري إلى عداواتهم البينية، واللعب على خلافاتهم لمصلحة انتزاع أدوارهم، ومن التكامل لمصلحة القضية السورية إلى التنافس عليها وتبديد عنصر قوتها.
على ذلك فإن محاولات التعطيل التي يقوم بها وفد النظام في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، بدفعها إلى مواضيع جانبية بعيداً عن متطلبات عملية التفاوض الحقيقية، وعن البحث في متطلبات الانتقال السياسي وأدواته، التي تنظم هذه العملية وتأخذها نحو الغايات المرجوة منها، تأتي ضمن خطة واضحة لكسب مزيد من الوقت، ينهي خلالها النظام عملياته العسكرية على الأرض، وخاصة في الغوطة الشرقية، لإعادتها تحت سيطرته، وإعلان خريطة جديدة لمنافذه الحدودية بعد تفاهمات روسية وكردية جديدة في شرق سورية. أي أن النظام يتعامل على الأرض مع خطة بديلة، تلتف على المفاوضات وتجعلها من دون معنى، وهي خطة يتوخى أن تقود ختاماً إلى إعادة معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته (ومنها دير الزور التي أعلنت قوات سورية الديموقراطية تبعيتها لها) إلى سيطرته لاحقاً ضمن اتفاقيات منفردة بعيداً عما يجري في جنيف الآن.
هكذا، فإن الحديث عن مشاركة كردية واسعة في مؤتمر سوتشي، مثلاً، رغم الاعتراض التركي عليها، لا يزال ممكناً، مقابل أن تحصل تركيا على ضمانات روسية بأن تكون هذه المشاركة لإعلان شكل الدولة السورية الجديدة، التي تنهي حلم الحكم الذاتي للأكراد، بينما تمنحهم في ذات الوقت مشاركة سياسية مضمونة دستورياً، وتهيئ لحكم لامركزي مفتوح الخيارات لاحقاً.
في مقابل كل ذلك تجد المعارضة نفسها أمام أكثر من تهديد بتصدّع موقفها، وذلك: أولاً، نتيجة إعلان توحيد صفوفها (غير المتكامل بعد)، والذي لم يأخذ وقته ليتحول إلى شراكة سياسية حقيقية تدافع عن وجودها بمزيد من التوافقات والتفاهمات، بدل التلويح بتفاوت المواقف تجاه قضايا رئيسية، مما يجعل من مؤتمر سوتشي كعصا الراعي بيد بعضهم، ضد بعض آخر، حيث لا تفيد هذه العصا في وقت تعم فيه الفوضى، وهي في الوقت ذاته لا بد منها لتجميع المخاوف في مكان واتجاه واحد. ثانياً، بسبب موجة الغضب الشعبي الذي يواجهها الوفد التفاوضي، المشكّل من مجموع تلك القوى، والتي يعتبرها معارضو الوفد قوى متفاوتة في مطالب الثورة وسقوفها، وهو ما يزيد من مخاوف انخراط المعارضة في قبول مؤتمر سوتشي، كأحد الحلول لمواجهة تصدّع الوفد المعارض وانهيار مشروعه المشترك. ثالثاً، بسبب التغيرات السريعة والمتلاحقة في مواقع الدول وتحالفاتها بعضها مع بعض، وبينها وبين النظام الذي يتغير موقعه من عدو إلى حليف أو شريك لحليف في مكان آخر.
اعتراض النظام على وثيقة المعارضة، وعرقلة ما يسعى إليه الوسيط الدولي بإحداث خرق في حائط مسدود على مدار خمس سنوات من بدء العملية التفاوضية، وتحويلها من مشاورات مع الأمم المتحدة إلى مفاوضات مباشرة بين خصمين في قاعة نزال سياسية، هو أيضاً، من وجهة نظر النظام، بمثابة «مفاوضات»، يحصد نتائجها جولة إثر الأخرى، ويعيد الصراع بينه وبين المعارضة إلى ما قبل الثورة، وليس إلى مربعها الأول، وهو صراع بين سلطة مستبدة تمتلك عوامل بقائها، ومعارضة منزوعة القوة والأسباب لا يترك لها سوى سوتشي بالرعاية الروسية، كمآل أخير لبعض إصلاحات وبعض سلطة في ظل هيمنة الأسد وبقاء نظامه، سواء قبل بإعطاء دور للشرع، أو لم يقبل.