تركيا واضطراب الأجندات في آستانة وسوتشي

سميرة المسالمة

يستند مسار مفاوضات آستانة، الذي وصل إلى جولته الثامنة، إلى مرجعية ثلاثية هي روسيا- إيران- تركيا، على رغم أن العراب الأساسي لهذا المسار هو روسيا، إلا أن الوقائع تفيد بأن أي خلل بخصوص تحقيق رغبات أي من الأطراف المذكورة من شأنه أن يعطل هذا المسار، وفي أحسن الظروف أن يبقيه قيد الانتظار. ولعل ذلك يفسّر حالة الجمود التي انتابت التوافقات الحاصلة في الجولتين السابقتين (السادسة والسابعة)، إذ تجلّى فيهما تعثّر قدرة الأطراف الثلاثة على الالتزام بتنفيذ متطلبات اتفاقات مناطق خفض التصعيد، التي تشهد اليوم معارك عديدة، خلافاً لما تم التوافق عليه في الجولة السادسة، وخاصة في ما يتعلق بمناطق إدلب وريفها وريف حماه، وتوزيع القوى الضامنة على حدودها بين روسيا وتركيا، وما يتعلق بإغلاق ملف وجود «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) في سورية.

 

على ذلك فإن مسار آستانة يواجه اليوم تحديات تهدّد استمراريته، وتعيد الخلافات بين تلك الدول الضامنة إلى المربع الأول، بحكم تباين أجنداتها حول تنازع النفوذ في سورية، ونوع الآليات التي تعّزز ذلك، بما يضمن مصالحها، ويهيئ الأجواء لانعكاسات هذه القسمة على الحل السياسي، سواء تابع مساره منفرداً في جنيف، أو استطاعت موسكو، من خلال إعادة الثقة إلى مسار آستانة، جر الأطراف الثلاثة، مع الأطراف السورية التي تتبناها، إلى طاولة مفاوضات سوتشي، التي تعدها للبحث في القضايا السياسية المختلف عليها في مفاوضات جنيف، ومنها موضوع إعداد الدستور والانتخابات بشقيها الرئاسي والبرلماني.

 

هنا قد يمكن البحث في تحديات مسار آستانة من خلال المآلات المتعلقة بمصير اتفاق «خفض التصعيد» الخاص بإدلب، وهي المنطقة الأكثر إلحاحاً اليوم، إضافة إلى علاقات الأطراف المعنية، وفقاً للملاحظات الآتية:

 

أولاً: يفترض أن تنهي الفصائل الموجودة في منطقة إدلب وريفها، المدعومة تركياً، معركتها ضد «هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً)، لإنهاء وجودها كاملاً من إدلب، واستعادة السيطرة عليها لمصلحة مجلس محلي من أبنائها، مع انتشار مراقبين أتراك من جهة المعارضة، ومراقبين روس من جهة النظام، إلا أن هذا الاتفاق لم يحترم من قبل النظام وروسيا، اللذين شنّا غارات على شمال سورية خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي ضمن منطقة خفض التصعيد ذاتها، ورغم ذلك فإن تركيا تابعت إعلانها عن معارك داخل المنطقة لتحريرها من «النصرة»، لكن عمليات التحرير لم تمتد إلى كامل المنطقة حتى اللحظة وما تزال الحرب على «النصرة» قيد تفاهمات، وتغيير في مواقع الجبهات حتى اليوم بين الفصائل العسكرية المختلفة الموجودة داخل وفي محيط تواجد «النصرة» في إدلب، مما يعني أن ملف «النصرة» لا يزال مفتوحاً للتفاوض، وهي النقطة التي تأخذها روسيا على تركيا، بينما تحتفظ بها تركيا للبحث، أو للضغط، في بقية الملفات.

 

ثانياً: تأمل تركيا من روسيا مساندتها في ما يتعلق بمعركتها في عفرين، في الشمال الغربي من سورية، بهدف منع «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة أميركياً، من أن تجعل من هذه المدينة منطلقاً لمد النفوذ الكردي في المناطق المحيطة، ما يشكّل تهديداً لمناطق جبال التركمان والأكراد قرب الساحل السوري، ما يتيح إقامة الكيان الكردي، أو كيان الحكم الذاتي للكرد، الذي ترفضه تركيا خوفاً من امتداده إلى مناطقها التركية، ذات القومية الكردية. وكل المؤشرات تفيد بأن تركيا لا تزال تحتفظ بهذه الورقة، أي ورقة التهديد بهذه المعركة، التي قد تجعل منها معبراً لفرض طلباتها على طاولة مفاوضات آستانة، ومن ثم لاحقاً سوتشي، ما يفسر قيامها، خلال الأيام الماضية، بفرض وقائع ميدانية، تعزز من مكانتها إزاء «قوات سورية الديموقراطية» مباشرة، من خلال إزالتها أجزاء من السور الأسمنتي، الذي كان يفصلها عن المنطقة التي يسيطر عليها الكرد، ما يمكنها من تحريك آلياتها العسكرية، ما يعني احتمال فتح المعركة للضغط أو لاستكشاف نوايا موسكو تجاه الاتفاقات السابقة حول منطقة خفض التصعيد ووعود انعقاد سوتشي من غير كرد «قوات سورية الديموقراطية».

 

ثالثاً: وبخصوص إيران، التي تراجع دورها دولياً بفعل الحصار الأميركي، وتباعد المصالح بينها وبين الجانب الروسي، الراغب في إنجاز مبادرة للحل السياسي وفق منطق القرار 2254، واتفاقاته مع الجانب الأميركي، المنجزة (خفض التصعيد في جنوب سورية)، وفيها ما يقلص الدور الإيراني، ما يعني ضرب مصالح إيران الحيوية في وجودها داخل سورية، فإنها تسعى من خلال إمساكها قرار النظام إلى إجهاض اتفاقات آستانة وهو ما يحصل اليوم في ريف حماة، وعرقلة أي جهد لإنجاح مسار جنيف، لذا فهي لا تجد لها أي مصلحة في سوتشي (وآستانة)، رغم موافقتها الشكلية على المسارين الروسيين.

 

رابعاً: بالنسبة إلى روسيا، التي تعتبر مسار آستانة أحد معايير نجاحها في الإطباق على ملف سورية، وفي ظل تحالفاتها مع إيران وتركيا (أعداء الأمس)، فإن توقّف ذلك المسار لأي سبب كان يعتبر بمثابة تعثر، من شأنه أن يبدد الحلم الروسي في اشتقاق مسار على الضفة الأخرى، يوازي آستانة العسكري، ويختص بالشأن السياسي، الأكثر خلافاً بين الدول المتصارعة على سورية من جهة، وبين السوريين معارضة ونظاماً من جهة أخرى. لهذا توزع موسكو ضغوطها الدبلوماسية بين الدول الثلاث (بإضافة دمشق)، التي استضافت أكثر من مبعوث روسي خلال أيام، بدءاً من بوتين الذي زار قاعدته العسكرية في حميميم بحضور الأسد، ومرورا بموفدي وزارة الخارجية قبل وبعد جنيف-8، ما يعني أن إنجاز جولة آستانة التي سيحضرها الوسيط الدولي لم يعد كما كان سابقاً وفق الجدول الزمني المرن ولكن وفق منطق التوافق على الغنائم قبل الوصول إلى التفاهم.

 

خامساً: أما الولايات المتحدة الأميركية، التي تراقب بصمت وريبة كل مجريات آستانة وتحضيرات سوتشي، وتعتبرهما بحكم الغائب الحاضر، حيث يمكن توظيفهما وليس استثمارهما في الحل النهائي، الذي يتوقّع أن تفرضه أميركا في مسار جنيف وليس بتجاوز له، وباعتبار أن أي حل مقرون بالنهاية بالرغبة الأميركية في وضع نقطة في نهاية ملف الصراع على سورية، وفق معادلة لا أطراف سورية منتصرة ولا قيام لسورية ما قبل 2011، ولا لسورية خالية من مخلفات النظام وتبعياته القائمة.

 

هكذا، فإن المعادلات الدولية تضع النظام أمام خيارات جميعها لا يتوافق مع رغبته أو رؤيته للحل، التي يختصرها بترك فرصة للمعارضة لمشاركته في بعض جوانب السلطة التنفيذية فقط، وليس السيادية، على مبدأ ما هو حاصل فيما يسمى «الجبهة الوطنية»، وهو ما نرى بعض الأطياف المحسوبة على المعارضة يدافع عنه، لذلك يذهب النظام إلى جنيف لتعطيل مساره، ويتعاطى بحذر مع آستانة، التي لا يلتزم بمخرجاتها أينما استطاع مع شريكته إيران إلى ذلك سبيلاً، ويصمت تجاه مشروع مؤتمر سوتشي، الذي تعد له موسكو، رغم رفضه جدول أعماله الذي يتطابق مع جدول أعمال جولة جنيف-8 الماضية وذلك لأسباب منها:

 

إن النظام يرفض سوتشي لنفس أسباب رفضه غير المعلن لجنيف، بيد أنه لا يعلن ذلك حيث الفرصة متاحة له للحضور، من أجل المناورة والتمييع، في حين أن مناقشة نفس البنود في جنيف من شأنها أن تتحول إلى قرار أممي، يدخل في رصيد المعارضة كطرف مقابل له.

 

من مصلحة النظام غياب المعارضة عن سوتشي، كي لا تجد روسيا شريكاً لها غيره، وحتى يتمكن بمن حضر من صياغة مخرجات لا تتوافق مع القرارات الدولية بهدف إجهاضها تحت مظلة إرادة الشعوب المجتمعة في المؤتمر.

 

ومن هنا فإن المعارضة ليست أمام تحديات صعبة بقدر ما هي تحديات وجودية يصعب معها اختصار المسألة بالموافقة أو الرفض لمؤتمر سوتشي، لأنه ليس نهاية المسارات ولكنه قد يكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير.

 

 

Comments (0)
Add Comment