منير الخطيب
إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، كنا مجموعة من الطلبة اليساريين في جامعة دمشق، الذين أعمَت بصرهم وبصيرتهم «قضية العرب المركزية». وإذ كنا نستمع إلى الأخبار، نقل المذيع رداً للرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون على تصريح لجورج حبش، قال فيه «الحكيم»: «سنجعل من بيروت ستالينغراد العرب»، فرّد الرئيس الراحل شمعون: «إذا بدّك تعمل ستالينغراد روح عملها ببلدك». فما كان منا نحن اليساريين المتواجدين، إلا أن صرخنا بحماس ومن دون تنسيق مسبق، «عميل أميركي»!، وبعضهم قال: «عميل إسرائيلي»!
كان ذلك طبيعياً في «مجتمعات جماهيرية» تتغذى من «الأيديولوجية القومية الاشتراكية»، ولا تُنتج سوى الأوهام في السياسة والثقافة والمعرفة، ومنها ذاك الوهم الكبير: لتحترق بيروت ولبنان كله، إذا كان ذلك «محطة في الطريق إلى القدس». وكان طبيعياً أيضاً، منذ أن خوّن العرب «العميل» الحبيب بورقيبة، عندما نصحَهم بقبول قرار تقسيم فلسطين عام 1947، قبل أن تحتل إسرائيل الأراضي العربية في حرب 1967، أن تُطرَد رؤى الاستقلاليين إلى الهوامش، مقابل سيطرة رعاعية كاسحة على المتون المجتمعية، يدعمها بقوة تحالف الاستبدادين السياسي والديني المديد.
ومع تغوّل الأيديولوجيات الكبرى المرتكزة على فكرة العقيدة (القومية أو الإسلامية أو الاشتراكية)، مقابل تهميش التيارات الاستقلالية التي ترى: سورية أولاً، ولبنان أولاً، وفلسطين أولاً، لم تغادر قضية القدس مجال توفير «ذروة من ذرى المشروعية العليا» لقوى الاستبداد في حروبها الأهلية الداخلية القذرة.
ألم تشكل القضية الفلسطينية ذروة من «ذرى المشروعية العليا» في القتال العبثي والمدمّر، الذي نشب بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني في أيلول الأسود عام 1970؟!
ألم يكن أحد مبرّرات اشتراك فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، هو منع الحل السلمي التصفوي للقضية الفلسطينية؟!
ألم يكن شعار، «تصدير الثورة الخمينية» إلى بلدان المشرق العربي، مترافقاً مع إعلان يوم القدس العالمي من قبل الإمام الخميني، والذي كانت الحرب العراقية– الإيرانية باكورته الأولى، كما لن يكون آخر ثماره فيلق القدس الذي يقوده الجنرال سليماني؟!
ألم يربط صدّام حسين خروجه من الكويت بعد احتلاله لها، بإنهاء احتلال إسرائيل للجولان والضفة الغربية؟!
ثم من الذي دمّر المدن السورية والعراقية، وقتل السوريين والعراقيين وهجّرهم غير «فيالق القدس» و «سرايا القدس» و «ميليشيات القدس» وجيوش «تحرير فلسطين»؟!
ألم يصبح طريق القدس بالنسبة إلى «حزب الله» طريقاً يمر من القصير والزبداني وحمص وحلب؟!
وكي لا تظل القدس قضية للاستثمار في التخريب والتدمير والتفتيت في الأنسجة المجتمعية العربية، من المناسب التفكير في اخضاعها لجملة مبادئ أخلاقية ووطنية وسياسية:
المبدأ الأول، فصل قضية القدس عن العقيدة سواء كانت قومية أو دينية، لأن إسرائيل أقدر من العرب على استثمار تلك القضية هويّاتياً، ومن مصلحتها وهي تسعى لتحقيق مبدأ «يهودية الدولة»، ربط قضية القدس بصراع إسلامي– يهودي، أو بصراع عربي– صهيوني. في المقابل، إن مصلحة الفلسطينيين والعرب تقوم على ربط تلك القضية بمسار حرية الشعب الفلسطيني وخياراته الذاتية، وبمستقبله السياسي، سواء تمثل هذا المستقبل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود الأراضي التي احتُلت عام 1967، أو تمثل (إذا سمح التاريخ بذلك) بإقامة دولة علمانية ديموقراطية ثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية.
المبدأ الثاني، لا يحق للعرب وللمسلمين إدانة «تهويد القدس»، في الوقت الذي يمارسون «التشييع» أو «التسنين» أو «التعريب» في مدن وبلدات عراقية وسورية عدة بطرق وأساليب وحشية، فمن يقف ضد «التهويد» ولا يدين «التشييع» و «التسنين» و «التعريب»، لديه نقص في المبدأ. كما لا يمكن الوثوق في مقاومة ضد «التهويد» تقف في الوقت ذاته مع «التشييع» أو مع أي مضمون هوويّ آخر.
المبدأ الثالث، تحرير قضية القدس من احتكار «جيوش الطغم المستبدّة» ومن احتكار الميليشيات المذهبية والعنصرية، فلا يمكن القدس أن تكون رمزاً لمسار حرية الفلسطينيين، إلا بعد انتشالها من المستنقع العسكريتاري– الميليشياوي العنصري المتعفّن.
المبدأ الرابع، إعادة تنضيد قضية القدس وسط رؤية تاريخية أخرى، جوهرها تفكيك المبادئ الأخلاقية والإبستمية لبقايا محاور «الصمود والتصدّي» و «المقاومة والممانعة»، التي بات تفكيكها ضرورة وطنية وإنسانية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى ظاهرتين هامتين: الأولى، في البدايات السلمية لثورات «الربيع العربي» لم يُرفع أي شعار لفلسطين، إدراكاً من المتظاهرين لذاك الارتباط «النجس» بين القضية الفلسطينية والاستبداد.
الظاهرة الثانية، تشي ردود الأفعال الباهتة من قبل «الشعوب» العربية على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، بقرف تلك «الشعوب» من نتائج الصراع العربي– الإسرائيلي خلال أكثر من نصف قرن، وقرفها من أحجام الكذب والنفاق والفساد لدى القوى التي حملت ألوية القضية الفلسطينية.
هذا مسار تاريخي معقّد وطويل وغير حتمي، لكنه ممكن وواجب، ويبدأ بإعادة الاعتبار إلى «العملاء» الذين ظلمهم التاريخ.