عمر قدور
يصعب التكهن بمسار المظاهرات التي توالت في عشرات المدن الإيرانية في الأيام الأخيرة، ومن المرجح أن يُقضى على حركة الاحتجاج الحالية ما لم تتحول إلى حركة شعبية عارمة تتوجها انشقاقات مهمة في المفاصل الأمنية. تعامل نظام الملالي المبكر مع المظاهرات ينبئ بنية سحقها مهما كان الثمن، ومجمل الأداء الأمني والإعلامي يذكّر بأداء مستبدي بلدان الربيع العربي مع الثورات، ويلزم التنويه بأن نظام الملالي كان سباقاً في قمع الحركة الاحتجاجية الضخمة التي اندلعت عام 2009، على رغم مجيئها تحت مظلة رجال دين إصلاحيين وعدم جذريتها إزاء النظام القائم بمجمله. جدير بالذكر أن النظام بادر بسرعة إلى قمع مظاهرات انطلقت لاحقاً في شباط فبراير 2011 مع موجة الربيع العربي، مستخدماً الرصاص ومتسبباً في مقتل بعض المتظاهرين وجرح حوالي 150 منهم واعتقال عشرة أضعاف هذا الرقم.
لتبيان حجم التحدي أمام الإيرانيين سيكون مفيداً التذكير بالآلة الأمنية الهائلة التي تحمي النظام، وتنفذ مشاريعه التوسعية والعدوانية في الخارج. فقوات الحرس الثوري “الباسدران” التي شكلها الخميني مستهلَ الثورة في حيازتها كل العتاد والأسلحة المتطورين، وتضم حوالي 350 ألف من قوات النخبة بحسب تقدير سابق لمعهد الدراسات الاستراتيجية في لندن. للحرس الثوري منظمة رديفة هي الباسيج، تعتمد على الشباب وطلاب الجامعات، وهي ميليشيا مسلحة وظيفتها تكمل وظيفة الحرس في الدفاع عن نظام ولاية الفقيه. لهذه المؤسسة المتكاملة اقتصادها الذاتي الخاص، فإلى جانب مصانع السلاح هناك استثمارات ضخمة تبدأ في قطاع النفط ولا تنتهي بقطاع المواصلات والاتصالات، والقاعدة الاقتصادية تعني فيما تعنيه عدداً كبيراً من العاملين والمتعاملين الذين تضطرهم ظروف العيش لتقديم الولاء.
النموذج الإيراني الذي يُوصف بالثيوقراطية هو بالأحرى مزيج من الثيوقراطية والتوتاليتارية، وإذا كانت ولاية الفقيه تحيل إلى الجانب الثيوقراطي فإن التنظيمات التابعة له تذكّر بتنظيمات حديدية حداثية من النمط السوفيتي أو من النمط النازي. والأهم أن هذا الجانب التوتاليتاري يضع في حسبانه هندسة المجتمع، عبر تلك التنظيمات الوسيطة، بما يخدم قالبه الأيديولوجي الخاص. المسألة لا تقتصر على فرض رؤية دينية بواسطة دولة بوليسية، وإنما العمل على جعل فئات واسعة من المجتمع متورطة في القالب ذاته ولا تفكر بالخروج منه، وإذا فكرت ترى أن الخروج منه مستحيل لشدة إحكامه.
وقد يكون من الصعب تقدير دور الملالي ما لم يؤخذ في الحسبان ثقلهم السياسي قبل استلامهم السلطة، فقبل نحو مئة عام قاد الملالي ثورة في الجنوب ضد حكم القاجار، قبل أن يطيح رضا بهلوي بسلالة القاجار وينصّب نفسه شاهاً على البلاد. لاحقاً، في تجربة حكومة مصدق بين عامي 1951 و1953، كان للملالي وأبرزهم آنذاك آية الله كاشاني دور هام في دعم مصدق أولاً في مواجهة الشاه، ثم الانقلاب عليه وتكفيره والتحالف مع الشاه ومن خلفه المخابرات البريطانية والأمريكية، وظهر آية الله كاشاني نفسه في الراديو الرسمي ليبارك إسقاط مصدق.
رمزياً، قد يختزل التعديل الذي أدخله حكم الملالي على العلم الإيراني جانباً مهماً من الصراع السياسي الذي كان قائماً، إذ وضعت كلمة “الله” مكان الأسد الذي يحمل سيفاً وخلفه شمس ساطعة. فالشمس في العلم المعتمد منذ 1907 ترمز إلى ماضي البلاد الزرداشتي، بينما كلمة الله ترمز وفق رؤية الملالي للتشيع الإيراني تحديداً. تحت هذا الخلاف تكمن رؤية جزء من الحركة القومية كان يساند الشاه ويبني أيديولوجيته على ثالوث العرق الآري والتاريخ الزرداشتي واللغة الفارسية، مع التنويه بأن الاعتماد الرسمي لتسمية إيران تم بتوصية من سفارة بلاد فارس في برلين أيام سطوة النازية. في مقابل استلهام التاريخ الزرداشتي تبدو صناعة التشيع الإيراني أكثر معاصرة وأقرب إلى الواقع، وأقرب زمنياً إذا شبهنا الأمر بصراع بين تاريخين من الساسانية والصفوية. انتصار الملالي لم يكن ليعني فقط هزيمة التيار القومي، وإنما أيضاً الاستيلاء على جزء معتبر من قاعدته وجد من السهل الاستغناء عن الشمس في العلم القديم لصالح الأيديولوجيا الجديدة. هذه القاعدة ليست بعيدة الهوى عن النزوع التوسعي لحكم الملالي، ولم يكن من المصادفة بعد اندلاع المظاهرات الأخيرة أن يصرح مسؤول إيراني بأن أنشطة الحرس الثوري خارج إيران تصب في مصلحة المشروع الوطني، أي أنه بشكل غير مباشر يريد التأكيد على ما هو قومي بدل الصبغة المذهبية الطاغية.
لكن، خارج الأيديولوجيا، إذا قطف الملالي سابقاً ثمار النقمة الشعبية على طبقة الأثرياء الكبار أيام الشاه فقد أتوا أيضاً بطبقة جديدة تمتلك السلطة وفسادها وثرواتها معاً. وإذا كانت قاعدة التيار الديني السابقة قوامها الأساسي ما كان يعرف بتجار البازار الصغار فجزء من تلك الشريحة قفز ليصبح بين يديه استثمارات ضخمة جداً، داخل الحدود وخارجها، بينما يمضي إفقار ما تبقى من الطبقة الوسطى لصالح الطبقة الجديدة، وأيضاً لصالح مشاريع توسعها الخارجية.
الحق أن ذلك لا يحدث خارج الأيديولوجيا، وأن تمزج شعارات المظاهرات بين المطالب الاقتصادية ومطلب إسقاط المرشد فذلك يدلل على فهم المتظاهرين لوظيفة الأيديولوجيا الدينية، حتى عندما تمتزج بنظيرتها القومية أو عندما تضع الدين في مصاف القومية. مطلب التخلي عن التدخلات الخارجية لا يأتي فقط على أرضية الضائقة الاقتصادية، بل أيضاً على أرضية فهم أن الانتصارات الخارجية لدى هذا النوع من الأنظمة هو وسيلتها للاستقواء على الداخل. ذلك لا يقود تلقائياً إلى أن إسقاط حكم الملالي سيؤدي إلى انكفاء في النفوذ الإيراني، فتمدد هذا النفوذ له أسبابه الخارجية المتعلقة بالضعف الجيوسياسي المجاور فوق الدوافع الداخلية التي تنتعش وتنكفئ بحسب فائض القوة المحلي.
صحيح أن مظاهرات اليوم تنطلق في ذكرى إخماد احتجاجات 2009 إلا أنها أيضاً الذكرى الأربعون لانتشار الاحتجاجات التي أدت خلال سنة إلى إسقاط الشاه؛ هذا لا يدفع بالضرورة إلى التنبؤ بمصير قريب لنظام الملالي، إلا أنه يذكّر بمسيرة حوالي أربعة عقود من عمر النظام بقي خلالها عصياً على التغيير. خلال هذه المدة فشلت المراهنة على التغيير من خلال ما يسمى التيار المعتدل، إذ بصرف النظر عن نوايا قادته لم تقدّم رئاستا خاتمي وروحاني ما هو مطلوب بقدر ما أثبتتا سطحية المراهنة على التغيير من الداخل، بخاصة مع الدرس القاسي الذي تلقاه المعتدلون عام 2009.
بصرف النظر عما قد يثيره التنوع الإثني والمذهبي من عقبات، تصطدم مقاومة النظام الإيراني بحمولته الثقيلة أيديولوجيا وبسيطرته المطلقة على مفاصل القوة في الدولة والاقتصاد، وفوقها بافتقاره إلى المرونة السياسية أو غيابها المطلق، بخلاف ما يُشاع عن مرونة سياسته الخارجية. هذه العوامل مجتمعة تجعل طريق الإصلاح مسدوداً، وفي أغلب التجارب تفتح على العنف، لا كوسيلة للتغيير وإنما أولاً كوسيلة السلطة لمقاومة التغيير. لكنها أيضاً تفتح على أفق أكثر جذرية، وإذا حدث ذلك تكون إيران على عتبة تجاوز التجربتين القومية والإسلامية معاً، وربما تكون لأول مرة قادرة على تجاوز التجربة التركية، إذا أخذنا في الحسبان التزامن ومجمل الظروف المتشابهة بين تجربتي رضا بهلوي وكمال أتاتورك.