محمد قواص
تشبه تظاهرات إيران هذه الأيام تلك التي اندلعت ابتداء من سيدي بوزيد في تونس في أواخر 2010 فأشعلت ما عرف بـ «ربيع» العرب. في تشابه الحدثين ذاك الجانب المفاجئ الذي لم تستشرفه أقلام وحناجر أعتى خبراء الشأن الإيراني. وفي التشابه أيضاً عفوية التحركات التي لا قيادة لها ولا بيانات حزبية ترفدها. وفي التشابه أيضاً تفشي العدوى وانتقالها من مدينة إلى أخرى واحتمال شيوعها لتصبح ربما، في تمرين التشابه، شبيهة بالثورة التي نفخ في رياحها روح الله الخميني قبل أقل من أربعة عقود.
لا يختلف النظام الإيراني في تفسيره لحـــراك الناس عن تفسير أنظمة المنطقة لحراك الناس في مدنها. وما يحصل في عرف الحاكم في طهران هو أعمال عبث وفوضى يرتكبـــها خارجــون عـــن القانون (جرذان بالنسبة للقذافي ومندسون بالنسبة للأسد وحرامية سابقاً بالنسبة للسادات). ومن يقف خلف تلك «الهبّة» في مدن البلاد، وفق بيان الحرس الثوري، هم الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، وبالتالي فإن من يهدد النظام الثوري هم الجواسيس عملاء «الاستكبار».
في بدايات الحراك السوري عام 2011 كانت سلطات دمشق تصدر بيانات تتحدث عن مواجهات مسلحة تتضمن تفجيرات كبرى كانت نتائجها مقتل إرهابيين ومقتل رجال أمن. لم تأت تلك البيانات يوماً على ذكر أعداد المدنيين التي تسقط في تلك «الأحداث». وإذا ما كان أمر ذلك السلوك الرسمي غريباً، فإنه ليس كذلك في عرف الحاكم في دمشق كما في طهران أو في أي أنظمة ديكتاتورية أخرى. لا شعب في إيران إلا ذلك الذي يصفق لـ «الثورة الإسلامية» وذلك الذي يخنع لسطوتها، أما من هم غير ذلك فمن نوع الجرذان والمندسين والخونة إلخ…
سيكون من الرصانة مراقبة الحراك في إيران من دون المغامرة باستشراف مآلاته. لم تتوقع أعتى الأجهزة الأمنية الغربية وأعرق مؤسساتها البحثية سقوط الاتحاد السوفياتي على رغم العمل الدؤوب من قبل هذا الغرب على إسقاطه. وسيكون من السخف ركوب موجة الحراك الحالي للتبرع بتفسير حوافزه أو التجرؤ على توقع نهاياته. فإذا ما كان في خروج الناس إلى الشارع عفوية مربكة، فإن في الحدث ما يجعله عابراً وكذلك ما يجعله مفصلياً في تاريخ إيران الحديث.
المفارقة أن المتظاهرين وضعوا الطبقة السياسية برمتها في سلة واحدة. والمفارقة أيضاً أن رد الحرس الثوري ومحيط الولي الفقيه لا يختلف عن ردود صدرت عن وزراء حكومة الرئيس حسن روحاني، بما يؤكد وعي الشارع بأن الجميع باتوا في سلة واحدة. وحتى الرموز الإصلاحية بدت تعابير خطابهم العتيق متقادمة لا تتسق مع شعارات المدن الغاضبة.
بيد أن تبرم مواطن إيراني عادي في مشهد أو تبريز ضد بلديته أو محافظته أو حكومته أو نظامه يقلق إلى حد الرعب رعية باتت تابعة في صعدة أو البصرة أو دمشق أو ضاحية بيروت. نجح نظام الولي الفقيه في جعل «ولاء الشيعة لإيران» وفق تعبير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. لا منطق تاريخياً بإمكانه أن يجمع مصير شيعة المنطقة بمصير الحكم في طهران، ومع ذلك فهذه حقيقة باتت تتجاوز أنصار الأحزاب والتيارات التابعة لطهران وتنسحب على البيئات الحاضنة في رد فعلها القلق على الحدث الحالي البعيد.
كان الحدث التونسي تونسياً وكذلك الأمر في ليبيا ومصر. لم يكن كذلك في سورية واليمن، ولا غرابة في ربط ذلك في البلدين الأخيرين بانخراط إيران المباشر في الحرب داخلهما. أن تهب رياح على طهران فذلك نذير شؤم على أيتام زرعتهم طهران في مدن المنطقة منذ عقود فجعلتهم، من حزب الله في لبنان مروراً بفصائلها في العراق وسورية وأفغانستان وباكستان انتهاء باليمن، يحومون بولاء أعمى حول كعبة الولي الفقيه في طهران. وقد لا يكون مستغرباً أن يستيقظ الأيتام ذات فجر على غياب الأم الوالدة والصدر الحنون.
لكن ربما يجب الإقرار بأن أي تغيير حقيقي في إيران لا يعني الشيعة فقط (أو غالبيتهم). نجحت طهران في تنصيب نفسها عاملاً أساسياً لفك عقد المنطقة برمتها، وبالتالي فإن ملفات سورية والعراق ولبنان واليمن مرتبطة مباشرة بالمزاج الحاكم في طهران. والصحيح أن الحناجر الغاضبة في إيران هذه الأيام ترى أن للتعفن الداخلي أوراماً نبتت خارج البلد وتستنزف الموارد وتعبث براهن الإيرانيين كما براهن المنطقة ومستقبلها.