غسان شربل
لا تذهب إلى المكتبة. هذه الرحلة فخ. المكتبة الغنية محكمة صارمة. دكان لبيع السموم والأسئلة والشكوك. وثمة من يعتقد أن هذه الرحلة لم تعد مبررة. وأنك تستطيع استدعاء الكتاب إلى جهازك أو هاتفك. لكن الفارق كبير بين شراء وردة وزيارة حديقة.
كان العام الماضي يحتضر. وكنت في باريس. ذهبت إلى المكتبة. يخالجك شعور بالرهبة. إذا كنت مشروع كاتب تذكرك الزيارة بحاجتك إلى جهد أعمار كثيرة لتكتب ما يتمرد على النسيان. وإذا كنت صحافياً تفتح الزيارة جروحك. هذه المهنة فاتنة وقاتلة في آن. فاتنة لأنها تلزمك بمرافقة العواصف ورصدها. وقاتلة لأنها تبدّد عمرك في العابر والتفاصيل. كل مساء تموت الصحيفة مع أخبارها ومقالاتها ويوم جديد من حياة صانعيها.
أقول الرهبة ولا أبالغ. فأنت في حضرة عمالقة أشعلوا أعمارهم ليتدفأ هذا القارئ الذي يأتي بعد سنة أو عقد أو قرن. العمالقة الذين تحوّلت كتبهم خواتم في أصابع الوقت. ليس بسيطاً مثلاً أن ينجح كتاب دبج في القرن التاسع عشر في اجتياز القرن العشرين الذي قتل كثيرين وأشياء كثيرة، وأن يبقى حياً على مائدة القرن الحالي.
أعرف أن المدن يحرسها رجال الشرطة. لكن المكتبة تعطيك انطباعاً أن الحراس الحقيقيين هم هؤلاء الذين ينامون في حناياها كأسراب من المشاعل. الروائيون والشعراء والعلماء والنقاد والرسامون. كأن هذا التراكم الإبداعي هو الذي يحصّن المدينة ضد الإفلاس الروحي والفكري ويمد ماضيها جسراً إلى مستقبلها.
لا يمل الكتاب الفرنسيون من نبش المقابر. يكرّرون استدعاء الهالات الكبرى في تاريخهم ويعيدون محاكمة أصحابها. يدققون في الوقائع والروايات ولا يترددون في تلطيخ صور كانت ناصعة إذا امتلكوا معلومات جديدة. لا نجاة لأحد من مشرحة النقد وإعادة تركيب الصورة بعد تخليصها من الحكايات التي تفتقر إلى الدقة. وهكذا تجد دائماً كتباً جديدة عن نابوليون ولويس الرابع عشر وماري أنطوانيت ومازاران وريشيليو ورجال لعبوا أدواراً مفتاحية في هذه الحقبة أو تلك. تجد أيضاً كتباً جديدة عن أهوال رافقت الثورة الفرنسية. وقراءات جديدة لسلوك بعض اللاعبين على مسرح الحرب العالمية الثانية. ولا يتوقف الفرنسيون عن استعادة قصص ديغول وبيتان.
وتجد على الرفوف مختارات شعرية جمعها رجل مرّ في الإليزيه وكان اسمه جورج بومبيدو. ورسائل فرنسوا ميتران الغرامية إلى صديقته ووالدة ابنته، فقد كان هذا الرئيس المثقف البارع عاشقاً يترجم أشواقه حبراً. وتجد كتاباً عن جاك شيراك وآخر لنيكولا ساركوزي أو عنه، والأمر نفسه بالنسبة إلى فرنسوا هولاند، فضلاً عن كتب تحاول تفكيك لغز وصول الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى مكتب شارل ديغول.
تستوقفك ظاهرة جميلة. أكثر رؤساء فرنسا يحلمون بالتحول كتّاباً. ربما لشعورهم أن الفرنسي سينسى بالتأكيد أسماء من تعاقبوا على الإليزيه، لكنه سيتذكر بالتأكيد مؤلف كتاب جميل أو مثير. فرنسا تفرد موقعاً مميزاً للكاتب. رأينا ذلك قبل ختام السنة. انحنى ماكرون، وفي باحة مجمع انفاليد الذي يحتضن ضريح نابوليون، أمام نعش الكاتب والصحافي وعضو الأكاديمية الفرنسية جان دورميسون وشاركه الانحناء رئيسان سابقان لفرنسا. وحرص ماكرون في كلمته الوداعية على استحضار المشاعل التي أضاءت طريق فرنسا في نص أدبي راقٍ أعاد التذكير بديغول الذي كان معجباً بشاتوبريان.
استغربت أنا الصحافي العربي أن يبقى الرئيس السابق حياً وأن ينصرف إلى الكتابة. تذكرت ما سمعته من الرئيس علي عبد الله صالح عن إعجابه بظاهرة الرئيس السابق الموجودة في لبنان. يا للهول. لا تتسع ثقافتنا لرئيس سابق. اغتيل كثيرون من الذين حاورناهم.
كتب كثيرة تحاول مساعدة القارئ على تفسير هذا العالم الذي تتدافع فيه الأحداث والثورات. كتب عن فلاديمير بوتين الذي يزداد غموضاً كلما تزايدت محاولات تفسيره وتفكيك نياته. وكتب عن الصين وطريق الحرير والنهوض الآسيوي. وعن الإرهاب والاندماج وأمواج اللاجئين والزعيم الكوري الشمالي الذي تباهى حديثاً بالزر النووي. وكتب عن العالم الرقمي وثورة المعلومات وهذا التقدم التكنولوجي المذهل الذي غير الاقتصاد والسياسة والتعليم وعلاقة الفرد بالعالم.
درة المكتبة ذلك الجناح الذي يتمدّد فيه كتاب وشعراء صنعوا ألق فرنسا ونجت رواياتهم وقصائدهم من سيف الوقت الذي لا يرحم. فولتير وموليير وفلوبير وبلزاك وستاندال. هوغو وبودلير ورامبو ولوتريامون وصولاً إلى السورياليين ومن ورثهم.
وفي غمرة هذه الثروات النائمة على الرفوف لا تستطيع إلا أن تسأل نفسك. هل سيجد هؤلاء في المرحلة المقبلة من يقرأهم ويجدد حياتهم؟ هل لدى الشبان الذين كبروا في «معاهد» وسائل التواصل الاجتماعي الرغبة والوقت للخوض في هذه الروائع وإنفاق الأيام لقراءة رواية؟ لاحظت أن معظم الذين يقلبون الكتب تجاوزوا الثلاثين على الأقل، فأين هم القراء الجدد؟ وهل سنشهد قيام كتب وأعمال مستوحاة من سرعة «تويتر» وأقرانه؟
دائماً يرجع العربي إلى أوجاعه. هذه مكتبة طبيعية في مدينة طبيعية. هذه بلاد تعامل نتاج مبدعيها كأنه أهم من السبائك. متى يكون للعربي مدينة طبيعية ليست موعودة بحرب أهلية أو غزوات الميليشيات؟ وماذا فعلنا بالرجال الذين يصحّ وصفهم بالمشاعل على قلتهم وماذا فعلنا بنتاجهم؟
يجد العربي دائماً سبباً للحزن أو الحسد. لهذا قلت في نفسي: ليتني لم أذهب إلى المكتبة.