عبدو خليل
على سفوح قرية حدودية من قرى عفرين. نسوة يبدو عليهن التعب والإرهاق . مريضات سكر وضغط. أغلبهن تعشن وحيدات بعدما سافر الأبناء والبنات، بالكاد تصلهن بين الفينة والأخرى حوالات بريدية شحيحة عبر سماسرة الحرب، يحملن صور أوجلان تحت خيمة باردة ترفرف فوقها إعلام وشعارات ملونة بكل ألوان الطيف. ترددن النسوة بصوت مكسور “حرية المرأة من حرية القائد آبو” ثم تستلم زمام القيادة فتاة في الثلاثينات تتحدث بلكنة أهل “ميشه” ذات الغالبية الكردية والواقعة جنوب منتصف تركيا. تخاطب النساء المتعبات وتطالبهن بضرورة مواجهة الطورانية التركية من أجل الكشف عن مصير أوجلان ومعرفة وضعه الصحي. على الضفة الأخرى من القرية. الحدودية، المجنزرات التركية تجوب الحدود وتزيل أشجار الزيتون وتمد شبكة من الجسور العسكرية، تضع اللمسات الأخيرة على تمركز عتادها الحربي. مدافع ودبابات وآليات ثقيلة ومشافي ميدانية. وألوف الجنود يترقبون ساعة الصفر. تلك الصورة هي تفصيلة من راهن عفرين التي تتعرض منذ قرابة السنة ونصف لمدفعية الجيش التركي ولقذائف فصائل المعارضة السورية، المسلحة.
بادئ ذي بدء. وقبل معرفة ما يجري في عفرين ومحيطها لزاماً علينا أن نعرف أنها من أكثر المناطق الكوردية، السورية. تعقيداً، ليس فقط على صعيد وعورة الجغرافيا. إنما على المستويين السياسي والعسكري، فهي تجاور شمالاً وغرباً. تركيا، وجنوباً الفصائل الراديكالية الإسلامية وشرقاً فصائل تتبع لدرع الفرات وليس لديها سوى مساحة ضيقة. تعتبر بمثابة المنفذ الوحيد يفضي إلى حلب التي كان يقطنها قبل الحرب الدائرة أكثر من نصف مليون كوردي. لذا الخارطة الجيوسياسية لعفرين أكثر إثارة مما تبدو عليه في الظاهر، ويمكن الجزم أنها كانت السباقة من بين كل المناطق الكردية السورية في التوجه نحو العمليات العسكرية لمواجهة النظام السوري مع تصاعد وتيرة العسكرة في الحراك السلمي السوري، وهذا ما دفع بالعمال الكردستاني لوضع المنطقة برمتها تحت ضغط وحمولة إيديولوجية زائدة مقارنة بغيرها، وذلك تفادياً لسيطرة التيارات الكردية المناهضة للنظام السوري على زمام الأمور في عفرين وقراها، هذا إذا ما أسقطنا العوامل الجغرافية المثالية، كما أسلفنا. والتي سال لها لعاب العمال الكوردستاني، من جبال وسهول تتناوب عليها الوديان وتغطيها الأحراش وكروم الزيتون. كل هذه المغريات دفعت بالعمال الكوردستاني لتحويل عفرين إلى ” عفرينديل” صغيرة أسوة بقنديل.
من ناحية أخرى كانت تركيا. في بداية الحرب السورية، تعتبر أن عبور مقاتلي العمال الكوردستاني نحو المناطق الكوردية السورية هو إنجاز يحسب لها. من أجل الدفع بهم نحو المحرقة، لذا حاربت. أي تركيا، بداية الأمر كل من عرقل مشروع الانتقال السلس لمنظومة العمال الكردستاني نحو عمق شمال سوريا، ومن هذا المنطلق ساهمت هي الأخرى في الحد من تواجد أية قوى عسكرية كوردية يمكن لها أن تنافس مشروع العمال الكوردستاني بعدما وجدت أن الفرصة مواتية لتنظيف معاقله في قنديل، لذا مارست سياسة. براغماتية، أشبه بالسياسة الأمريكية التي حولت سوريا إلى ” عش الدبابير” الذي التم من حوله كل الجماعات السلفية والتكفيرية. إلا أنها لم تدرك، والحديث دائما هنا عن تركيا. أن العمال الكردستاني كمنظومة مافيا قادرة على بناء مجموعات لا متناهية من جملة علاقات معقدة. سواء مع النظام السوري والإيراني، أو مع فصائل المعارضة المسلحة بما فيها داعش وجبهة النصرة، تقاطعت معهم في جملة مكاسب وفوائد مادية عبر حقول النفط و جباية الضرائب بالقوة على تنقلات السلع والبضائع، ترافقت هذه المرحلة. تحديداً، في توجه العمال الكردستاني للانفتاح على تركيا، و طالب بفتح معابر حدودية أسوة بباقي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، وحط صالح مسلم الزعيم السابق للجناح السوري من العمال الكوردستاني في مطار اسطنبول أكثر من ذي مرة، وكانت الشروط التركية تتلخص بمجملها حول نقطة واحدة. فك الارتباط مع النظام السوري، وليس مع العمال الكردستاني. وهذه النقطة الأخيرة تدعم فكرة أن النوايا التركية راهنت على أن المستنقع السوري كفيل بإذابة العمال الكوردستاني. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن.
مع تدفق المال والسلاح بعيد معركة كوباني توسعت مطامع العمال الكردستاني بعدما تعهد “مقاولة” محاربة داعش وصار أقرب من أي وقت آخر لقوة مرتزقة تعمل لقاء عمولات وليس لأهداف وأجندات سياسية. منحته هذه الميزة المافيوية. وفرة في المال والسلاح، وتالياً صلفاً وعسفاً لا مثيل له بحق سكان المناطق الكوردية. وزاد من جرعة قمعه وتنكيله لكل من يختلف معه، وصلت لدرجة أن ألدار خليل والهام أحمد كرروا أكثر من مرة مقولة ” من لا يعجبه العيش تحت سلطتنا ليرحل” ، وتم العمل بسياسة النظام السوري ” إما أن تهاجر أو تقاتل معنا ” . هذا إذا تجاهلنا كم العداوات والأحقاد التي راكمها و افتعلها مع المحيط الكوردي، طبعاً. بالتعاون مع أمراء الحرب في باقي المناطق السورية.
ومع سقوط حلب. لم تعد خارطة الصراع السوري عما كانت عليه في السابق، وتبخرت الطموحات التركية في سوريا مع تنامي الوجود الإيراني والامريكي والروسي، مقابل ذلك أخذ تقهقر داعش في الموصل وصولاً لمدينة الباب في ريف حلب يقلص فرص ديمومة الحرب وهذا ما أخذ بدوره يؤرق قادة العمال الكوردستاني مثل أي. متعهد حرب، لهذا بدأ بسلسلة انهيارات وتنازلات في طروحاته القومية التي طالما اتخذها مطية لابتزاز حوامله ” الكردية” وبدأ يطرح شعاراته الفاضلة. الأفلاطونية، حول أخوة الشعوب، مما اضطره في بعض الأحيان لخلق شعوب لا تتعدى مكوناتها أصابع اليدين، مثل الشيشان والأرناؤوط وغيرهم وصولاً إلى إعادة الاعتبار لشخصية “أوجلان” ذات نفسه، والتي همشت خلال السنوات الماضية، وألقيت رسائله التي كانت تدعوا للسلم في سلة المهملات، ودونما سابق إنذار وجدنا كيف تدهورت صحته. أي أوجلان، وباتت حياته مهددة. لإلهاء الجمهور في مكان آخر، ريثما يتم البحث عن حرب جديدة ترفع من منسوب الدم والربح.
ضمن هذه الصورة المركبة تبحث تركيا اليوم في الوقت بدل الضائع من التصفيات السورية، عن هدف ذهبي يخرج العمال الكوردستاني من مونديال مكافحة الإرهاب الذي وصل فيه لأدوار متقدمة وتكاد تكون نهائية، حيث يعتقد قادة أنقرة أنهم باتوا في وضع حرج لأن المستنقع السوري لم يغرق في أوحاله العمال الكوردستاني، على الأقل حتى هذه اللحظة كما قلنا. يضاف لذلك أن كل من عولت عليهم تركيا من فصائل مسلحة باتوا يتصدرون قوائم الإرهاب الدولي.
في كل الأحوال العمال الكوردستاني يشاطر اليوم غريمه التركي في حيرته بعدما فشل هو الأخر في تخطي دائرة الشبهات ووصمة الإرهاب التي تلاحقه رغم كل البروبغندا التي اشتغل عليها. بدءاً من إشعال السجائر للنساء المعتقلات لدى داعش و انتهاءاً بنسخة ” باربي” المقاتلة. الفاتنة، ولم يظفر بأي مقعد تمثيلي في أية مفاوضات رسمية تخص الشأن السوري. لا بل تدهورت علاقاته مع النظامين السوري والإيراني مؤخراً، وروسيا وأمريكا لا يبدو عليهما الحماس لتطوير العلاقة معه أكثر مما هي عليها. مع أن الأخيرة. أمريكا، طرحت مؤخراً فكرة إنشاء قوة حدودية منبثقة عن قوات قسد التي فشلت في إظهار الوجه. الحيادي، للعمال الكردستاني . لكن كل هذا قد تطيح به أمريكا في لحظة توافقات وتوازنات جديدة. لذا لا بديل له عن حرب جديدة من عيار ” حرب كوباني” عله يطيل أمد اللعبة.
بالنهاية. مهما كانت التخمينات والتحليلات ثمة اتفاق ضمني. تخاطر، غير متفق عليه بين العمال الكوردستاني وتركيا على نقل معاركهم من قنديل إلى عفرين سيما وأن اللعبة هذه المرة تتم تحت الأضواء وقد تترافق مع تصفيق حاد من النظام السوري، وهنا مربط الفرس.