الهجوم الحالي على عفرين ليس المناسبة الأولى لاندلاع العداوة العربية الكردية. قبله في تل أبيض أنكر الأكراد انتهاكات وحدات الحماية الكردية بحق السكان العرب، وأنكروا أيضاً ما أعلنته قوات التحالف من أنها قصفت في مناسبات عدة مدنيين خطاً بناء على إحداثيات أُعطيت لها من وحدات الحماية. قبل ذلك، لم يتخذ العرب موقفاً يشجب اعتداء فصيل عربي على منطقة كردية في الجزيرة، والقلّة منهم التي شجبت الاعتداء على عفرين هي قلة غير مرغوب في وجودها من الطرفين، مثلما هو وضع نظيرتها الكردية التي تتعرض للتخوين مع كل موسم أو من دونه.
في الظاهر فقط، لا توجد مطالبات بالانفصال بين الجانبين، جانب لأنه اعتاد الهيمنة وجانب آخر لأن واقع عدم وجود تواصل ديموغرافي بين المناطق الكردية يمنع المطالبة به. هذا لا يمنع انتعاش نقاش تفصيلي لا معنى له سوى رسم الحدود بين الطرفين، ولا تعني المغالاة في المطامع من أي جانب إلا استبطاناً لانفصالٍ واقعٍ، ولجدران لامرئية تزداد سماكة في انتظار الظروف التي تجعلها مرئية.
على سبيل المثال فقط، أن يسمّي الأكراد «عرب الغمر» بالمستعمرين، وهم الذين نقلتهم السلطة بعد غمر قراهم وأراضيهم ببحيرة سد الفرات، وأن يتبرع عرب باعتبار الأكراد المحرومين من الجنسية لاجئين من تركيا لا يستحقونها، فهذا نوع من رسم الحدود بين الطرفين. الأمر هنا يتعدى كلاماً يُلقى هنا أو هناك، فما يُكتب في الإعلام من الطرفين مسيّس بغالبيته، ولا يتوخى إيراد معلومات قريبة من الواقع، ولا يندر أن نجد كتابات تنكر أحقية الوجود الكردي، أو كتابات تنكر أحقية الوجود العربي على الإطلاق.
لا يصح النظر إلى فائض العداوة على أنه وعي أزمة طارئ، فالمظلومية الكردية لم تتشكل في سنوات الصراع الأخير، وهي لا تشبه الصراع الذي يخوضه سوريون آخرون، والانقسام الكردي- العربي مختلف عن الانقسامات المجتمعية الأخرى. غالبية الأحزاب الكردية تطالب بالحقوق القومية للشعب الكردي، هذا يختلف كلياً عن صراع يخوضه سوريون آخرون يتعلق أساساً بنوعية الحكم وعدالة تمثيله، أو يتعلق بمخاوف من الهيمنة السابقة أو اللاحقة، وفي كل الأحوال لا يُطرح موضوع التقسيم من قبلهم على النحو المعلن أو المضمر في ما يخص الأكراد.
يجدر بالذكر، في سياق المظلومية، أن النشطاء الأكراد لم يبذلوا أدنى جهد تجاه سوريين آخرين من أجل قضيتهم، بينما انصبت جهودهم على كسب التعاطف الغربي، أو حتى التنويه بالتعاطف العربي غير السوري. السوري المتعاطف مع الأكراد غير مرغوب فيه لأنه يعكر الصفاء المطلق للمظلومية، إذا لم يُردِف تعاطفه بهجاء لاذع للعروبة. في كل الأحوال، مهما كان التعاطف سخياً فهو في أحسن أحواله الفردية يعبّر عن كرم أخلاقي، ولا يحتمل بالضرورة وعياً سياسياً مؤثراً، لأن الأخير يحكمه وعي بالمصالح ونقاش تفصيلي فيها يقيم المقارنة بين مختلف الاحتمالات.
في ميزان المصالح مثلاً، يحضر عادة القول بوجود مطامع في الثروات الطبيعية في أماكن الوجود الكردي، وهذا كان ليصحّ (بصرف النظر عن مصادر قوله) لو أن السوريين أدمنوا نهب تلك الخيرات، ولو لم تكن ثروة عائلة الأسد قد بلغت مستوى خرافياً من نهب البلد بأكمله. بلغة المصالح أيضاً، سيكون من مصلحة بلد ضعيف منهك من الصراع إقامة أفضل علاقات السلم وحسن الجوار، هذا لا يتفق مع نظرة الأكراد إلى تركيا بوصفها إسرائيلهم، وقد يؤدي إلى وضع مشابه للحملات العسكرية التركية المتكررة على جبال قنديل في إقليم كردستان.
انفصال أكراد سورية يعني، في ما يعنيه، التخلص من العبء الإقليمي للقضية، وجعل الأمور التي تتعلق بالقضية الكردية (سلماً أو حرباً) من اختصاصهم وحدهم من دون وصاية سوريين آخرين. هنا ليس من شأن أي سوري آخر النقاش في قدرة الكيان الوليد على مجابهة الصعوبات، ولا حتى من شأنه التفكير في معضلة عدم وجود تواصل جغرافي بين المناطق الكردية إلا من باب التعاطي معها وفق قواعد حسن الجوار.
تالياً، لن يكون من شأن أي سوري آخر ما إذا الكيان الوليد سيُحكم من بعث كردي، أو الاستدلال بتعثر تجربة إقليم كردستان المجاور. هذا كله، في حالة الانفصال، يندرج في إطار الوصاية على تجربة ينبغي أن تحظى باستقلالها.
الفيديرالية ليست حلاً للقضية الكردية في سورية، قد تكون نموذجاً جيداً لما يتبقى من البلاد، أما في ما يخص الأكراد فلا تعني سوى التكاذب الســـياسي. لدينا في الواقع الفيديرالية التي أقامتها الميليشيات الكردية من طرف واحد، ونعلم كيف سيطرت على مناطق ذات غالبية عربية بالقوة ولم تمنح السكان حقهم في حكم ذاتهم، بل أنشأت هيئات أشــبه بالجبهة الوطنية التقدمية التي أنشأها حافظ الأسد بينما كان البعث مستفرداً بالحكم، ولدينا فوق ذلك العديد من الانتهاكات مثل التهجير والتكريد، والأهم من ذلك نظرة عرب تلك المناطق إلى الميليشيات الكردية بوصفها قوة احتلال.
والفيديرالية ذاتها يصعب قيامها على أسس سليمة من دون ترسيم للحدود يتوافق مع الواقع السكاني، وبما أن فكرة الترسيم ستكون واردة في كل الأحوال، فقد يكون من الأحسن رسمها على قاعدة الانفصال، ولا بأس باستخلاص الدرس من تجربة خلاف إقليم كردستان وبغداد حول الحدود. ذلك لن يكون سهلاً على أية حال، ولا ضمانة في أن الترسيم ضمن الفيديرالية سيكون خالياً من العنف، أو أن يكون العنف أقل من نظيره في حالة الانفصال، إلا إذا كان العنف مضبوطاً خارجياً في الحالتين.
من المعروف كلاسيكياً أن الدولة الحديثة تبنى على إرادة العيش المشترك، هذا شرط لازم وغير كافٍ لأسباب خارجية وداخلية. فالظروف الخارجية تضـــغط للإبـــقاء على الوضـــع الراهن، وداخـــلياً تتــحفز قوة الأمر الواقع الكردية لتحصل بالفيديرالية على ما ليس من حقها لو طالبت بالانفصال.
لعل تفكيك هذا الوضع المفخخ يبدأ بأن يجرؤ السوريون من غير الأكراد على التفكير في التحرر من القضية الكردية، هذا مؤلم لوجدان نسبة كبيرة منهم، لكن لا يندر أن تكون المشاعر على خطأ.