تحت أسوار ديار بكر المهدمة

عبده وازن

لا أدري كيف يمكن جيشاً جراراً مثل الجيش التركي أن يخوض حرباً شرسة في عفرين الكردية تحت شعار «غصن الزيتون». ولا أدري أيضاً إن كان «الإمبراطور» العثماني أردوغان يعلم أن هذا الشعار مسروق من الجملة الشهيرة التي أطلقها الراحل ياسر عرفات في خطابه الشهير في الأمم المتحدة العام 1974 عندما قال :»جئت حاملاً غصن الزيتون بيد وبندقية الثائر بيد… فلا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي». وغصن الزيتون أصلاً يرمز إلى السلام والحياة كما أفادتنا القصص القديمة، ومنها قصة نوح والطوفان في التوراة التي تحكي عن الحمامة إلى حملت غصن الزيتون بمنقارها عائدة من الأرض الغريقة إلى سفينة نوح، الذي تأكد أن الحياة عادت إلى الأرض فعاد. قلب أردوغان رمز غصن الزيتون، التاريخي والديني، وفسره على طريقته مضفياً عليه معاني الموت والخراب.

 

يحارب أردوغان الأكراد في عفرين بشراسة وعنف، والمثقفون الأتراك في الداخل أو في المنفى يعترضون ويحتجون رافعين أصواتهم من غير خشية، مع أنهم يعلمون أن أبواب السجون التي فتحت لهم لم تغلق وقد يساقون إليها على حين فجأة. أورهان باموك المعارض لم تحل جائزة نوبل التي يحملها دون منع رواياته في تركيا حيناً تلو آخر، لكنه لم يهادن مرة النظام الذي يسميه «نظام الإرهاب» وما برح يوجه رسائل قاسية إلى أردوغان. أصلي أردوغان، أويا بيدار، أليف شافاك…. يكتبون ويعلنون جهاراً رفضهم سياسة «الإمبراطور» العنيفة وجنون عظمته. وأجمل ما صدر أخيراً في هذا السياق في تركيا كتاب للروائية أويا بيدار عنوانه «أحاديث تحت الأسوار» (صدرت ترجمته الفرنسية عن دار فيبوس)، وقد يكون هذا الكتاب السردي من أجرأ الكتب وأشدها فرادة وتحدياً، فهو يدور -من خلال عين تركية وأخرى كردية- حول قضية الأكراد والصراع التركي– الكردي داخل تركيا نفسها، وتحديداً في ديار بكر التي شهدت معارك قاسية قتلت فيها جماعات كردية وهجرت ودمرت أملاكها. زارت الروائية بيدار ديار بكر ثلاث مرات بين 2015 و2016، وإحداها مع وفد من المثقفين الأتراك اليساريين والمعارضين، وجابت المناطق المدمرة والأحياء المقفرة التي هجر أهلها بعد المعارك القاسية التي دارت هناك. وزارت قلعة سور في قلب المدينة القديمة والضواحي وعاينت وشاهدت ودونت انطباعاتها. وشاءت أن تلتقي سيدة كردية لم تعلن عن اسمها وأجرت معها حديثاً عفوياً وجريئاً استخرجت منه مادة كتابها «أحاديث تحت الأسوار». وفاتحتها هذه المرأة «السرية» قائلة: «لم تبصري شيئاً في ديار بكر، أنت لم تبصري شيئاً في هذه المدينة». وروت لها تفاصيل من المأساة الرهيبة التي شهدتها المدينة والتي بلغ فيها العنف ذروته، وفي لحظات استحال الحوار مواجهة بين هاتين المرأتين، الكردية التي من جنوب شرق تركيا والتركية التي من غربها. وبدت كأنها تعبر عن الأكراد جميعاً: «ليست الأرض هي التي انشقت بل القلوب». وحدثتها عن تضاؤل الرغبة في ما يسمى «العيش المشترك»، خصوصاً لدى الأكراد الذين عانوا ما لا قدرة لهم على تحمله. عاتبت السيدة الكردية كثيراً المثقفين الأتراك «الغربيين» الذين كان في إمكانهم أن ينخرطوا أكثر في الدفاع عن الأقلية الكردية وأن يؤدوا دوراً أشد صلابة. وروت كيف أن الشباب الأكراد باتوا يؤمنون بالعنف أداةً لمواجهة التسلط الأردوغاني، وأضحوا يصرون على هويتهم الكردية رداً على الحملات الرسمية الساعية إلى اقتلاعهم وتغريبهم عن جذورهم.

 

لم تهب الروائية أويا بيدار أعين المخبرين عندما زارت ديار بكر وكتبت هذه الرواية بجرأتها المألوفة، هي المناضلة الماركسية التي دخلت السجن مراراً بين السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم وخلال الانقلابين العسكريين الشهيرين اللذين حصلا. وبعد انقلاب 1980 لجأت إلى ألمانيا ولم تعد إلا بعد اثني عشر عاماً. وكلما سئلت: «ألا تخشين السجن الآن؟»، تقول: «ما مضى من العمر جعلني عاجزة عن إيجاد ملاذ في الأمل»، مشيرة إلى أن كاتبة ومناضلة بلغت الثامنة والسبعين (مواليد 1940) لم يعد يخيفها دخول السجن ولا المحاكمة ولا الرقابة. عملت أويا في الصحافة ولها روايات عدة هي من عيون الأدب التركي الملتزم الحديث ومنها: «كلام ضائع» و «لم يبق سوى الرماد». واختصاصها في السوسيولوجيا جعلها على بينة من قضايا الجماعة والأفراد ومن مفاهيم السلطة وأيديولوجيتها. تتحدث أويا عن «الوطنية العدوانية» التي فرضها النظام وتقول: «هذا العنف ضد الشعب الكردي متجذر منذ فترة طويلة. في سنوات الصغر كنت اسمع الناس يقولون: أننا نحب الأكراد، فهم أوفياء. وعندما لم يعد الأكراد أوفياء، أي عندما طالبوا بحقوقهم ولغتهم وعندما نادوا بهويتهم الوطنية وشرفهم، أصبحوا خونة».

Comments (0)
Add Comment