عمر قدور – المدن
لم تكن مصادفةً أن تشن الميليشيات الإيرانية في سوريا هجومين على التوالي؛ الأول في دير الزور ضد قوات “قسد” المحمية أمريكياً، والثاني باختراق الحدود الإسرائيلية بطائرة استطلاع من دون طيار. في الهجوم الأول أوقع الطيران الأمريكي بالميليشيات خسارة فادحة لا تقل عن مئة قتيل، وفي تداعيات الاختراق الجوي قام الطيران الإسرائيلي بقصف ما لا يقل عن دزينة من الأهداف لقوات الأسد وحلفائه، في غارات وصفتها إسرائيل بالأعنف منذ عقود.
كالمعتاد توجهت الأنظار إلى إسقاط طائرة F16 الإسرائيلية، وذهب البعض إلى أن إسقاطها تحول نوعي في قواعد الاشتباك. بينما ساد التعتيم المعهود على المقلب الآخر، فلا أنباء عن الخسائر التي أوقعتها الطائرات الإسرائيلية المغيرة، ولا قتلى يُسلّط عليهم الضوء، أسوة بالمئة الذين تمت التضحية بهم في دير الزور لاختبار جدية النوايا الأمريكية. وبالطبع هلل أصحاب الممانعة لنصرهم الذين تمثّل بإسقاط الطائرة، وكأنهم هم الذين رصدوا وضربوا بنك أهداف إسرائيلي، بينما كان نتنياهو يردّ بما يستلزمه الوضع أصلاً فيؤكد على أن قواعد الاشتباك لم ولن تتغير.
ما أعلنه نتنياهو هو لبّ الموضوع، لأن قواعد الاشتباك التي تصرّ عليها إسرائيل هي شريط حدودي خالٍ تماماً من الميليشيات الشيعية بعمق 40 كيلومتر داخل الأراضي السورية، يُضاف إليه الحق في ضرب شحنات الأسلحة الإيرانية التي ترى فيها إسرائيل خطراً على أمنها. التأييد الأمريكي أتى سريعاً، ومن المعلوم أن الاتفاق على منطقة خفض تصعيد في جنوب سوريا بين واشنطن وموسكو سبق أن لاقى اعتراضاً إسرائيلياً لأنه لم يلحظ العمق المطلوب، وفي التأييد الأمريكي الأخير عودة إلى المطلب الإسرائيلي السابق وتبنّيه. أما عن تكرار استهداف الطائرات الإسرائيلية لاحقاً فقد أتى الرد الإسرائيلي بأن “الصواريخ لا تعرف الحدود”، وهو يشرح إمكانية الاستهداف بمختلف الوسائل وأقلها كلفة.
لقد خطف هذا الحدث الأضواء من بقية المجريات الميدانية، لكن سيكون من الأفضل دائماً قراءته ضمن اللوحة الكلية للصراع على سوريا والصراع فيها. مرحلة الصراع الحالية مختلفة عن وقائع السنوات السابقة لجهة تقدّم القوى التي كانت تخوض حروبها بالوكالة إلى الواجهة، ما يعني تدشين مرحلة جديدة من الصراع على سوريا، بعد أن سبق وطويت مرحلة الصراع السوري الداخلي، وأيضاً بعد اتفاق كافة القوى المنخرطة في الصراع على طي صفحة التغيير الديموقراطي الذي كانت المطالبة به فاتحة الصراع.
لن يكون هناك حل ديموقراطي للقضية السورية، ولن تعود سوريا إلى سلطة الأسد، ولن تعود سوريا إلى ما كانت عليه. لعل هذه هي الأطر التي تحدد المرحلة الحالية، وربما المستقبل أيضاً إذا نظرنا إلى المعارك الحالية بوصفها تنازعاً على الحصص وتأسيساً للمستقبل. وكما هو معلوم لا يتوقف الأمر عند رغبة إسرائيل في شريط حدودي بعمق 40 كيلومتراً، أنقرة أيضاً أعلنت عزمها على إنشاء شريط حدودي بعمق 30 كيلومتراً، وإذا أتى بذريعة الموضوع الكردي فإنه يعني من جانب آخر عدم تعويلها على وجود سلطة مركزية سورية مستقبلاً، أي أن حالة الضبط التي كانت سائدة من قبل لن تعود.
إننا في الواقع إزاء ثلاثة شرائط حدودية معلن عنها، حتى إذا لم تكن قيد الوجود الواقعي بأكملها، فالإدارة الأمريكية أعلنت عملياً عن بقائها ضمن الشريط الحدودي في الشرق والشمال الشرقي، وغاية هذا الشريط كانت الإشراف على الممر البري بين العراق وسوريا، أو بالأحرى بين طهران وحزب الله، ثم تطورت غايته المعلنة لتصبح التحكم بأي حل سياسي للقضية السورية، أو لتضع محاولات الاستفراد الروسي بالحل أمام خيار التقسيم.
ولعل الإعلان الأمريكي هو الذي فتح قضية الشرائط الحدودية كافة، فأنقرة تريد حصتها أيضاً، بينما كان الطيران الإسرائيلي يجوب الأجواء في غارات متكررة بلا رد، وضمن تفاهم بدا وثيقاً جداً مع موسكو. التصدي لهذه الخطوط مجتمعة قد يكون رغبة إيرانية، لكنها على الأقل مسنودة بدعم روسي إن لم تكن بتنسيق تام. فقوات الأسد راحت في الوقت نفسه تسهّل عبور المقاتلين الأكراد والأسلحة إلى عفرين على المحور الثالث للتصدي للغزو التركي، وهذا لا يمكن حدوثه إلا برغبة روسية وإيرانية، مع العلم بأن الأسد كان قد أبلغ الميليشيات الكردية رغبته في دعمها وعدم موافقة موسكو على ذلك، وربما يكون إسقاط مروحية تركية في اليوم ذاته الذي أُسقطت فيه الطائرة الإسرائيلية أبلغ “مصادفة”.
الواقع يشير أيضاً إلى مدى صعوبة التصدي للرغبات الأمريكية والإسرائيلية والتركية، حتى مع استثناء الوجود الأمريكي منها حيث قد يعني مجرد التحرش به استفزازاً غير مقبول إطلاقاً من الإدارة الأمريكية. لا يغيب عن الأذهان هنا أن نتنياهو كان أكثر من التقى بوتين من زعماء العالم قاطبة منذ بدء التدخل العسكري الروسي، وأن التفاهم الروسي/الإسرائيلي واحد من الخطوط التي إذا تجاهلتها موسكو فستكون تل أبيب قادرة على إثارة المتاعب لها، ويكفي حينها أن ترفع تل أبيب الفيتو الخاص بها على تسليح فصائل سورية، أو أن تعلن أنها لم تعد تريد بقاء الأسد في السلطة مع ما لهذا الإعلان من تداعيات على بعض صانعي القرار في الغرب.
أيضاً ثمة معضلة تخص التعاطي مع الجانب التركي، بما أنه كان طوال الفترة الماضية الطرف الضامن مع موسكو للعديد من الصفقات في سوريا، وكان شرطه الوحيد هو التخلص من الخطر الكردي. اليوم ليست حكومة أردوغان في أحسن حالاتها كي تقدّم تنازلاً باهظاً أمام موسكو من نوع وقف حربها على الميليشيات الكردية، فهي سلّفت موسكو أقصى ما في حوزتها من تأثير على الفصائل السورية، ومضت بهمّة في مسار آستانة لخفض التصعيد تمهيداً للانقضاض على المناطق المشمولة به، فضلاً عن تدهور علاقاتها بالحليف الأمريكي وبالغرب عموماً. وأن تضحّي موسكو بالحليف التركي الجديد فهذا ليس مستغرباً أو مستبعداً نهائياً، إلا أنه يعني تدهور التفاهمات والتوازنات الإقليمية التي بنتها حول تدخلها العسكري، واقتصار الأخيرة على تحالفها مع طهران بحيث تكون أسيرة متطلباتها أكثر من أي وقت مضى.
التكهن بمسار هذه المرحلة من المواجهات قد يكون صعباً، لأنها ربما تكون الأشد ضراوة إذا أخذنا في الحسبان خوضها لأول مرة علناً وبالأصالة، أي بالاستغناء عن ساعي البريد السوري المعتاد مع بقاء قسمته الوافرة كضحية. تقدُّم القوى الدولية والإقليمية إلى الواجهة قد يعني خوض المعارك الأخيرة لما قبل التسوية في ما بينها، وقد يعني بالمقدار ذاته أن حل القضية السورية وسوريا نفسها يتراجعان ليصبحا من الماضي.