سميرة المسالمة – الحياة
بدّدت «الهيئة العليا للمفاوضات»، المنبثقة عن قوى الثورة والمعارضة السورية، شكوك النظام ومؤيديه، في ما يتعلق بموقفها من الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، في البيان الذي أصدرته عقب انتهاء اجتماعها (الرياض – 12/2)، والذي رفضت فيه أن تكون سورية ساحة للنزاعات الإقليمية، وبتأكيدها أن إسرائيل هي عدوة لكل السوريين، أي للمؤيدين والمعارضين، على حد سواء، متجاهلة بذلك زيارات متباعدة لبعض المحسوبين على المعارضة إلى الكيان الصهيوني، ما أعطى النظام على الدوام مادة حية لشن هجماته على أوساط المعارضة جميعها، باتهامه لها بأنها جزء من مؤامرة على النظام وحلفائه المشكلين لمحور المقاومة.
وعلى رغم أن البيان جاء في سياق ارتدادات إسقاط الطائرة الإسرائيلية من قبل الدفاعات الجوية السورية، إلا أنها- أي الهيئة- وجدت الفرصة متاحة لها للتعبير الضمني المؤيد والمساير للمشاعر الشعبية المتعلقة بهذا الحدث الجلل في المنطقة العربية.
ربما من المفيد القول إن إسرائيل عدوة للسوريين، والعرب جميعهم، على الأقل شعبياً، لكن، ورغم ذلك، فإن دولة الاحتلال، وهي دولة استعمارية وعنصرية وتمارس أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين وتنتهك سيادة سورية، بغاراتها المتكررة بضرب القواعد العسكرية السورية والإيرانية، هي في الوقت ذاته ليست من ساهم بتحويل سورية إلى ساحة للنزاعات الإقليمية، إذ ظلت تنأى بنفسها عن ذلك، على الأقل بصورة علنية أو مباشرة.
هكذا فإن الجيش الإسرائيلي ليس بين الجيوش التي انتشرت قواعده على امتداد أرض سورية، كحال الدول الضامنة للحل السياسي، و «خفض التصعيد» في مناطق سورية عديدة، ومنها إدلب وريف دمشق، حيث تقصف القوات الروسية والإيرانية والتركية (إضافة إلى الولايات المتحدة)، كل على حدة، هذه المناطق، لأسباب تخصّ أجندة كل دولة، ما يخلف مئات الضحايا، شهداء وجرحى، وعشرات آلاف المشردين من منازلهم، وهدم أحياء في المدن والقرى، بما في ذلك مستشفيات ومدارس ودور عبادة.
إلى ذلك، فإن البيان الصادر عن الهيئة التفاوضية، على أهمية تضمينه الموقف من إسرائيل، يجاري إعلام النظام، إلى حد ما، بتحميله هذا الكيان المغتصب أراضينا الفلسطينية والسورية وزر كل ما يحدث، تحت بند المؤامرة، في تجاهل متعمد لأدوار الدول الداعمة لمكونات هذه «الهيئة»، لا سيما روسيا وتركيا، وفي المقابل ثمة تخفيف لمسؤولية النظام وحليفته إيران ومعهم «حزب الله» كمحور مقاومة.
وفي الواقع فإن ما أحدثه التدخل الإيراني في سورية من انعكاسات سلبية على الصراع، من حيث تغيير بنيته بين طرفين سوريين، أحدهما يمتلك السلطة، ويتغول من خلالها على الطرف الآخر، الذي واجهه باحتجاجات شعبية واسعة، تطورت بفعل انتهاج النظام الحل الأمني، الذي دعمته إيران، إلى ثورة شملت معظم الجغرافيا السورية، ثم توالت التدخلات على الجانب الآخر، الذي اعتبر تصريحات الدول التي سميت لاحقاً «أصدقاء الشعب السوري»، بمثابة وعود قطعية، ستؤدي إلى إنهاء نظام الاستبداد، وإقامة نظام ديموقراطي ينهي مأساة الحكم الأمني، الذي استمر خمسة عقود متتالية، وهو العامل الأبرز في تحويل سورية إلى ساحة صراع إقليمي مسلح، تمرر من خلالها إيران رسائلها الاستفزازية إلى دول الجوار كلها، وتعمل من خلال موقعها الاحتلالي لسورية على تعبيد طريقها المفتوح، من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، من دون أن تنسى إيران «المقاومة» زرع الفتن والحروب الداخلية في اليمن والبحرين لزعزعة استقرار الخليج العربي كاملاً.
وعلى الجانب الآخر فقد تجاهلت هيئة التفاوض في بيانها ذكر حقيقة ما يحدث في سوريا من مجازر، تقوم بها الدول الضامنة لمسار آستانة، الذي وقع اتفاقيات خفض التصعيد في المناطق التي تشهد أعنف تصعيد في سورية، خلال سنوات الحرب الماضية، فحيث روسيا الدولة الضامنة للنظام تقصف مع شريكيها (النظام وإيران) بكل أنواع الأسلحة مناطق «خفض التصعيد» في ريف دمشق وإدلب، بينما تدك المدفعية التركية والطيران منطقة عفرين، من دون أي اعتبار لسورية هذه المناطق جغرافياً، وسكانياً، بغض النظر عن تنوع القوميات التي تسكن تلك المناطق من عرب وكرد وآخرين سوريين.
لقد تعاملت «الهيئة» مع الحرب في عفرين من مبدأ الحيادية حيث أقرت أهمية التهدئة، من دون التطرق إلى جوهر القضية بأن تركيا، الدولة الداعمة للائتلاف وكثير من الفصائل المسلحة- تتعاطى مع الوجود الكردي في سورية كأحد أخطار وجود حزب العمال الكردستاني، المحظور والمصنف إرهابياً في تركيا، من دون أن تعطي فرصة التعاطي مع حل النزاع السوري مع بعض أطياف الأحزاب الكردية ضمن الحل الساسي الشامل، لكل ما يحدث في سورية، ما يدفع اليوم الكرد للاستعانة بالنظام في وجه حرب لجيش دولة كبرى كتركيا يشن هجوماً على ما تسميه تركيا ذاتها ميلشيات، ما يعني حرباً غير متكافئة تعيد الكرد إلى النظام، كملجأ أخير لهم، أمام تقدم الجيش التركي مصحوباً ببعض الفصائل السورية، في حرب لا تخدم أجندة الثورة السورية، ولا تدخل ضمن معطيات المعارضة التي تتحدث عن دولة واحدة وشعب واحد!
هنا يمكن السؤال بجدية عن المغزى من أنصاف المواقف حول القضايا التي يناقشها اجتماع «هيئة التفاوض»، فمن جهة هو ممانع مع النظام ضد العدو الإسرائيلي، وهذا جيد، من دون التصريح عن موقفها من الخسائر أو الأخطار الناجمة عن تدخل إيران عبر هذا الاستهداف، ومن جهة أخرى، يتعامل البيان «بخفر» مع جرائم موسكو ضد الشعب السوري. أيضاً، وفي مكان آخر، في البيان، يتم التهرب من تصريحات أعضاء في الهيئة التي سبقت انعقاد مؤتمر سوتشي بالرعاية الروسية، والتي أكدوا فيها غير مرة أنهم: «غير معنيين بما ينتج عنه»، ليكشف البيان الصادر عن اجتماعهم أنهم منخرطون بمناقشة اللجنة الدستورية التي أقرها «سوتشي»، متناسين تصريحاتهم السابقة، بأن اللجنة الدستورية هي من اختصاص الهيئة الانتقالية، ما يهيئ للقول أن تجنّب انتقاد جرائم موسكو يدخل في صلب أنصاف المواقف، التي تتيح لبعض الهيئة ومنهم «منصة موسكو» تمرير ما لا يتماشى مع بيان الرياض 2، من خلال الهيئة، من دون أن تكلف هذه الأطراف نفسها عناء تحمل الغضب الشعبي من مواقفها.
من الملاحظ، في هذه المرحلة، وجود تقاطع في المصالح بين تركيا وروسيا وإيران في الصراع على سورية، ما يبرر تمرير مثل هذه البيانات الهشة من الهيئة، والتي تعبر عن توافقات باطنية بين الضامنين لمكونات الوفد، قبل أن تعبر عن واقع تعيشه المعارضة السورية، وينقسم بين رغبتها في المحافظة على موقعها التفاوضي مقابل النظام، وهذا يظنه بعض محدثي العمل السياسي قائم على: «التنازلات لمصلحة التبعيات»، وبين ما يحتاجه موقعها الوطني من مشروع سوري يجمع تحت جناحيه مصالح السوريين في دولة ديموقراطية، مع إبعاد شبح التدخلات الخارجية في صياغة التفاهمات حول هذه الدولة من خلال ادواتهم اللاوطنية، وبين المنقسمين ثمة من يعمل بالتوافق، الذي ينتج نصف الموقف حيث لا يمكن البناء عليه، كما لا يمكن التمسك به.
في معركة إسقاط الطائرة الإسرائيلية انتصر النظام على النظام، من دون أن يمرر هذا الانتصار أي هزيمة لإسرائيل، التي استباحت سوريا مرات ومرات إثر ذلك، ما يعني أن الانتصار كان على النظام ومنه وليس أكثر، وأن علينا أن نعترف بأن ما يحدث اليوم أكثر من اعتداء، وأقل من رد، وأنصاف مواقف من المعارضة.