صوّتت الغالبيّة العُظمى من الناخبين في الاستفتاء الذي طال انتظارُه لإقليم كردستان العراق لصالح الاستقلال. شكّل هذا الموقف إعلاناً واضحاَ عن الصعوبة المتزايدة بين الأكراد في التعايش مع الحكومة الاتِّحادية العراقية. وقد أظهرت الأحداث التي عقبت الاستفتاء التنافس المستمرَّ بين أربيل والسليمانية على طول الحدود الرمزيّة للحرب الأهليّة. كما أنها أعطت بغداد فرصةً للمزيد من التدخُّل في الخلافات الكرديّة الداخليّة.
***
تأسّس قرار الإستقلال الكردي عن العراق من تراكم عدّة قضايا مفصليّة جعلت تعايشَ سلطة الإقليم مع السلطة الاتحاديّة أمراً صعباً. وهي القضايا الحقوقيّة ذاتها التي اتّفقت عليها المعارضة العراقيّة بمختلف مشاربها قبل الإطاحة بنظام صدام حسين 2003. ابتداءً من الشراكة السياسيّة، وصولاً إلى دولة المواطنة التي ضلَّت النخب العراقيّة سبيلَها إليها، إذا إنّها اعتمدت محاصَصة السلطة مذهبيّاً وإثنيّاً، وحاولت تجريدَ الشركاء من حصصِهم وتركيزِها في يدِ التّحالف الشيعيِّ الذي حوَّل العراق إلى “مستعمرة إيرانية” وفقا لتصريح القياديّ العراقي إياد العلّاوي لمجلّة نيويوركر.
ما لبث أن حدث خلافٌ بين رئيس الجمهورية جلال الطالباني ورئيس الوزراء ابراهيم الجعفري على خلفيّة زيارة هذا الأخير لتركيا (1 آذار/مارس 2006)، دون التشاورِ ولا إعلامِ الشركاء في السلطة التي كان ينظِّمها حينذاك قانونُ إدارة الدولة في مادَّتَيه 24 و25. فطالب كلٌّ من التحالف الكردستاني والقوى السنّيّة من ائتِلاف دولة القانون بضرورة عدمِ ترشيح الجعفري لمنصب رئاسة الوزراء. الأمر الذي جاء بنوري المالكي إلى الحكم خلفاً له.وخلال فترة حكم المالكي تأزَّمت الملفّات العالِقة بين بغداد وأربيل، وأكثرها أهميّة ملفُّ كركوك والمناطق الكردستانية المتنازَع عليها التي يعالِجها الدستور في مادّته 140، والتي تتضمّن على شرط زمنيٍّ لتنفيذها خلال سنة 2007. إلّا أنّ المالكي ماطَل في تنفيذ هذه المادة وكذلك الأمر بالنسبة إلى نصوص قانون النفط والغاز.
انعِدام في الشراكة، استفِتاء أحاديُّ القرار، وتعارُضات كرديّة
خلال سنة 2012، عمل البارزاني، بالتنسيق مع مقتدى الصدر وبعض القوى السنِّيّة، على سحب الثقة من نوري المالكي. غير أنَّ التدخل الإيراني حالَ دون توقيع رئيس الجمهورية جلال الطالباني على قرار سحب الثقة. وظهر احتمالُ المواجهة المسلَّحة في السنَة ذاتِها، حينما جاءَت قوّات عمليّات دجلة إلى شمال غرب كركوك وتأهَّبت قوّات البيشمركة لمواجهتِها.
وفي اجتماع تشاوري عُقد في مصيَف صلاح الدين (18 آذار/مارس 2013) مع الكُتل البرلمانيّة الكرديّة في البرلمان العراقي، أعلن مسعود البارزاني عن إجراء استفتاء حَول استقلال كردستان لاستحالة التفاهم مع بغداد على آليّات الحكم الديمقراطيّ في العراق. في شباط/فبراير 2014، قطع المالكي حصّة الإقليم من الميزانيّة العراقيّة. وبعد أربعة أشهر، ظهرت داعش في الموصل. ممّا دفع رئيسَ الإقليم على تأكيد عزمِه على إتمام الاستفتاء خلالَ وقتٍ غير محدّد من سنة 2014.
إلّا أنّه لم يتم حتى 25 أيلول/سبتمبر 2017. وأتى مسبوقاً بظهور جبهتَين متعارضتَين في الداخل الكردي، ترجمها التفاوتُ الكبير في نسبة المشاركة بين المحافظتَين الممثَّلتين للحرب الأهليّة الكرديّة: في السليمانيّة، لم تتجاوز نسبة المشاركة 55%، وفي أربيل وصلت المشاركة إلى الـ 90%. ومع ذلك، وصلت المشاركة العامة 72% وصوَّتت بنسبة 92% لصالح الإستقلال.
تُشكِّل معاداة حزب البارزاني في محافظة السليمانيّة مَكسباً انتِخابياً محلِّيّاً. ونظراً لشعبَوِيّة الثقافة السياسيّة المتداوَلة منذ عقود في الإعلام الكردي، حلَّت المعاداة لحزب البارزاني في السليمانية محلَّ القضيّة الكرديّة. تثمِّن بغداد هذه الحالة وتدعَم الشخصيّات الفاعِلة في هذه الجبهة (سروَة عبد الواحد رئيسةُ كتلة حركة التغيير في البرلمان العراقي، وآلاء طالباني النائب عن الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ في البرلمان عينِه). ظهر مشروعُ الاستقلال عبرَ الإعلام الكرديّ في السليمانيّة وكأنّه مشروعٌ سياسيٌّ لحزب البارزاني، مكرِّساً بذلك ذهنيّة الإحتِراب داخلَ المجتمَع الكرديّ عبر الشخصيّات المتطرِّفة والشعبَويّة داخلَ الحركة السياسيّة التي لم تقدِّم أيَّ مشروع سياسيّ خارجَ الإصطِدام بالقوّة الحاكِمة في أربيل. وهذا يوفِّر لبغداد الأدوات اللازمة للتحكُّم بالحقوق الكرديّة وفقاً للتوجُّه الذي تريدُه وخارج نطاق الدستور، كالمقترَحات المتعلّقة بالتعامل مع الإقليم كمحافظة منفصِلة وليس كإقليمٍ فيدرالي.
ورغم أنّ جميع القيادات الكردية أيَّدت إجراء الاستفتاء وشاركت فيه، إلا أنّ التداعيات التي تلَته أحدثت تعارُضات كبيرة في الإقليم، من حصار للإقليم وسقوط كركوك في يدِ الحشد الشعبيِّ وتحوُّلِ النقمة الشعبية إلى مظاهراتٍ وإضراباتٍ ضدَّ الفساد السياسيّ والاقتصاديّ في محافظة السليمانيّة وحلبجة. وكاستِطراد في الفشل الإدرايّ والسياسيّ، حاولت بعضُ الشخصيات المتواطئة في عمليّة تسليم كركوك التنصُّلَ من مسؤوليّة تأييدِها لإجراء الاستِفتاء. وظهرت مقترَحاتٌ انتهازيّة وغير عمليّة لإصلاح الأزمة. عمِّق هذا الأمر الشرخَ المجتمعيَّ في مدينة السليمانية. ونشر مسؤولٌ كرديٌّ في حزب الاتِحاد الوطنيّ الكردستانيّ مقالاً مفصلاً بجريدة جاودير العدد 635 يؤكِّد فيه أنه يمتلك وثيقةً خطّيّة تتضمّن توقيعَ جميع قيادات حزب الاتِّحاد الوطنيّ الداعمة للاستفتاء.
تسليم كركوك واتِّفاق ” سليماني- سليمانيّة”
بعد الاستفتاء بفترة وجيزة، أيْ في صباح 16 تشرين الأول/أكتوبر 2107، استيقظ الكرد على عمليّة انسحاب البيشمركة دون قتال أمام قوّات الحشد الشعبيّ التي قادَها أبو مهدي المهندس، وهو شخصيَّة مصنَّفة في قائمة الإرهاب الأمريكيّة. أتى هذا الانسحابُ بعد زيارة الجنرال الإيراني الرّحال قاسم سليماني إلى السليمانيّة للمشاركة في مراسم عزاء الرئيس العراقي الأسبق جلال الطالباني الذي توفِّيَ في 3 تشرين الأول/ أكتوبر. واجتمع في السليمانية (12 تشرين الأول/أكتوبر 2107) بشخصيّات محدَّدة من داخل العائلة، ليبلغَهم بضرورة انسحابهم من كركوك التي تخضعُ دستوريّاً للمادة 140 المتعلِّقة بالمناطق الكردستانيّة المتنازعِ عليها. أعلن الإعلام العراقيُّ النصر من خلال ما عُرِفَ بـ اتّفاق “سليماني/ السليمانية” الذي لم تستمِرَّ سرِّيَّتُه سوى أيام قليلة، إلى أن صرّح به الناطق الرسميّ باسم الحشد أحمد الأسدي ونائب رئيس الجمهورية نوري المالكي.
في بيان رسميّ أصدرَه قبل أن يتسقيل، أعلنَ رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني عن سقوط كركوك نتيجة لعمليّة خيانة قام بها جناحٌ في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. أدّى ذلك إلى شرخٍ ثلاثيٍّ داخل إقليم كردستان. في مدينة السليمانيّة داخل الحزب الذي قادَه جلالُ الطالباني حتى وفاتِه، انقسم الحزب عمليّاً إلى جناحَين: جناحُ المكتب السياسي برئاسة كوسرت رسول ومعه مدير المكتب السياسي ملّا بختيار؛ وجناح أولادِ أخ جلال طالباني ـ أخوه من والدته ـ وفي مقدِّمتهم لاهور شيخ جنكي – مسؤولُ مديريّة مكافحة الإرهاب في السليمانيّة – وأخوه آراس وآلاء طالباني ومعهم الإبن البكر لجلال طالباني بافيل. وأصدر الجناحان بيانَين مستقلَّين باسم الحزب بمناسبة رأس السنة الجديدة. إضافةً إلى ذلك، أعلنت حركةُ التغيير عن تجميد اتِّفاقها الاستراتيجيّ مع حزب الاتِّحاد الوطنيّ الكردستاني. وأعلن الحزبُ الديمقراطيُّ بقيادة البارزاني أنّه يتعامل فقط مع جناح المكتَب السياسيّ لحزب الاتِّحاد الوطني. فانقسمت كردستان إلى الحدودِ الرمزيّة القديمة للحرب الأهلية بين أربيل والسليمانيّة.
دخلت بغداد على الفور على خطِّ الأزمة الكردية لتُعمِّقَ الشرخ وتستثمرَ فيه، كما تفعل تقليديّاً في سياستها تجاهَ الكرد منذ ولادة العراق عام 1921. تمثَّل ذلك في مبادرة نوري المالكي الذي طالب بـ “مكافأة السليمانيّة ومعاقبة أربيل”، وفي خروجِ تعبير “إقليم كردستان” التي أقرَّتها المادّة 117 من الدستور العراقي من استخدامات المؤسّسات العراقية. واستعاد رئيسُ الوزراء حيدر العبّادي في كلمتِه الأسبوعية التسميَة السائدة إبّان حكم البعث والتي يكرهُها الكرد في وصفِه الإقليم بـ “الشمال”، وكذلك حالُ الإعلام العراقي الذي ظهرَ بخطاب معادٍ.
حكومةُ الإقليم تستفتي والحكومة الاتّحادية تُعاقب
ومن المفارقة أنَّ رئيس الوزراء العراقي دعا إلى الوحدة الوطنيّة مع الكرد عبر سلسلة من الإجراءات من شأنِها أن تؤدّي إلى حالة حرب أهليّة: إعلانُ حالة حصار على الإقليم شملت كافّة المجالات الاقتِصادية: بسيطرتها على 60% من الإيرادات النفطيّة للإقليم بعد سقوط كركوك، حيث هبطت القدرة الإنتاجيّة للإقليم من 450 ألف برميل يوميا إلى 200 ألف برميل فقط. وطلبت الحكومة العراقية من إيران وتركيا إغلاقَ المنافذ الحدوديّة وتعطيلَ حركة الملاحة الجوية. كما أخذت تدابيرَ ماليّةً بعدم إرسال رواتب موظّفي الإقليم، وأعلن البنك المركزي العراقيُّ وقفَ تعاملاتِه الماليّة مع الإقليم، ممّا أثَّر سلباً على سعر الدولار في الأسواق المحلِّيّة وتداولِه. وكذلك منعت التحويلات الماليّة بالعملة الأجنبيّة إلى محافظات الإقليم. وتمَّ انتهاكُ المادّة 9 من الدستور العراقي، إذ قرّرت الحكومة الاتّحادية مهاجمة كردستان، وحدثت عدّةُ معارك بين البيشمركة وفصائلَ من الحشد الشعبيّ الذي يرتبط مباشرة برئيس الوزراء العراقي وفقاً لقانون” هيئة الحشد الشعبي”. جرت المعارك في (20 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2017) في منطقة “بردى” الواقعة بين كركوك وأربيل وكذلك في منطقة “زمار” وقضاء مخمور جنوب أربيل، تجاوزاً لسيادة الإقليم التي يَحفظُها الدستور العراقي. وامتنعت بغداد عن إرسال الاحتياجات الدوائيّة للإقليم، ورفضت الحوار غيرَ المشروط مع الإقليم.
كما أنَّ بغداد يترك موضوعَ المطار لهيئة الطيران المدنيّ وفقاً للمادّتين 114 و115 من الدستور العراقي الذي يعالجها بوضوح. فالمادة 114 تنصُّ على إدارة الجمارك بالتنسيق مع حكومة الإقليم. وتُقرّ المادّة 115 باختِصاص حكومة الإقليم في المجالات غيرِ الحصريّة للحكومة المركزيّة، فتكونُ الأفضلِيّة لصالح الأقاليم في الصلاحيات غيرِ المنصوص عليها في الدستور. يجدر التذكير من باب المقاربة أنّ العبادي، في قضيّة مماثِلة، رضخ لمجلس محافظة النجف الذي رفض تسليم المطار إلى هيئة الطيران المدنيّ العراقيّة. لذلك خلَت خطابات رئيس الوزراء العراقي جميعُها من الإحالة الدستوريّة باستثناء المادَة الأولى منه والمتعلِّقة بوحدة الأراضي العراقيّة والتي وكِّلَت مهمّةُ تفسيرِها إلى المحكمة الاتِّحادية. في حين أنّ القيادة الكرديّة استمرَّت في اللجوء إلى الدستور لحلِّ المشكِلات العالِقة بين بغداد وأربيل، مُرفِقة خطابَها بملفِّ الخروقات الدستوريّة التي ارتكبتها بغداد ضدَّ أربيل.
تعقَّدت الأوضاع الاجتماعيّة في كردستان، وظهر تدريجيّاً تيّاران متناقِضان: أحدُهما يدعو إلى ضرورة حلّ الخلافات مع بغداد تحت رعاية دوليّة. وآخرٌ بات يتجلّى في الشارع الكرديّ الذي أبدى في الأسبوع الأوّل من سقوط كركوك استعدادَه للعودة إلى الحاضنة العراقيّة، لكنّه يجدُ اليومَ نفسَه في مواجهةِ عدوٍّ تقليديٍّ لحقوقِه السياسية، نظراً للعدوانيّة المفرطة التي مارستها حكومة العبّادي والميلشيات التابعة للأطراف الشيعية حليفة الأمس. إلى جانب ذلك، لم تظهر “مكافأة السليمانية” التي روَّجت لها بعض الشخصيّات العراقية. وتجلّى النزاع الداخلي الكردي في تراشق الإعلامي بين القيادات الكردية تنكشف عبرَه ما تبقى من خبايا الاتِّفاق الذي أدّى إلى سقوط كركوك وجمود التفاوض مع بغداد.
إنكارٌ وفسادٌ واحتِقان
وفي حين تحوَّلت قوّات البيشمركة الكرديّة إلى رمز في دحر الإرهاب، تجنّب رئيس الوزراء العراقي في كلمته التي ألقاها بمناسبة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامي (9 كانون الأول/ديسمبر 2017)، ذِكرَ اسم البيشمركة أو الإشارة إلى دورِها في هذه الحرب. أثار هذا الإنكار سخطاً شعبياً واسعاً. وساهم في مضاعفة الشعورِ العامّ بانعدام إمكانيّة للتعايش مع قيادات عراقيّة تتناوَب على تدمير المستحقّات الكرديّة. علماً أن قوّات البيشمركة كانت تُحارب الإرهابَ في شوراع بغداد وبقيّة المدن العراقيّة، حينَ لم يَكن للدولة العراقيّة قوّاتٌ كافيَةٌ للدّفاع عن مؤسّساتها. وبدأت أصواتٌ تعلو داخل كردستان لاستعادةِ إرثِ الثورة المسلَّحة ضدَّ بغداد.
أتت تلك النداءات من آفاق سياسيّة مختلفة، وتجلّت في خطابات شخصيّات دينيّة مؤثِّرة كـالملّا كريكار السلفي، أو في كلمة رئيس الحزب الاشتراكي الكردي محمد حاج محمود الذي قال بالحرف: “إن كنتم تريدوننا أن نبقى في العراق كشركاء فتعالَوا نتشارك، أو اتركونا نمضي في الاستفتاء إلى غايته”. وليست تلك الدعوات غائبةً عن الشارع الكردي الذي بات يَنظر إلى الحكومة العراقية كحكومة قسريّة.
تتراشق القوى السياسيّة الكردية التُّهمَ بعدم أهليَّتِها لإدارة الأزمة الراهنة. وحاولت حركة التغيير، بالتنسيق مع الجماعة الإسلاميّة الكردستانية، أن تطرح مشروع حكومةِ إنقاذٍ وطنيٍّ لتدير التفاوضَ مع بغداد وتخفِّف من هيمنة الحزبَين الرئيسيَّين التابعَين للزعيمَين البارزاني والطالباني. إلّا أنّ هذا الاقتِراح لم يحظَ بدعم دَوليّ، لا سيَّما بدعم الولايات المتّحدة الأميركيّة التي دعت القوى الكردية إلى الاصطفاف خلفَ رئيس حكومة الإقليم نيجرفان البارزاني ونائبه قباد طالباني، وذلك تجنُّباً لظهور حكومة كرديّة ضعيفة ومواليَة لإيران صاحبةِ النفوذ القَويّ في السليمانيّة. حيث تُتَّهم حركة التغيير والجماعة الإسلامية بتبعيَّتِها لإيران.
تأتي تلك التفاعلات ضمنَ احتِقان كبير في الشارع الكرديّ ضدّ القيادة الكردية لهَول ملفّات الفساد التي راكَمت ثروات كردستان في جيوب حزبيّة. وهي الذريعة نفسُها التي تعتمدُها بغداد ضدّ ميزانيّة الإقليم المجمّدة منذ بداية عام 2014. وقد أظهرت المشادّات المحتدِمة بين القيادات الكرديّة التفاصيل التالية: أتاواتٌ تفرضُها شخصيّات حزبيّة عبرَ مجموعات مسلّحة خاصّة (كالاتِّهامات الموجّهة لمسؤول مقرِّ حزب الاتِّحاد الوطنيّ الكردستانيّ في كركوك والميليشيا المعروفة بالقوّة السوداء)، نشاطاتٌ غامضة تمارسُها شركات أمنيّة؛ وتراكمٌ بِدئي لرأس المال عبر احتِكار معظمِ المجالات الانتاجيّة والاستهلاكيّة من قِبَل شركات تمتلكُها الأحزاب الرئيسيّة. كلُّ ذلك يتحكَّم بحركة السيولة المالِيّة داخل الإقليم. وكما صرّح نائبُ رئيس حكومة الإقليم قباد طالباني نفسه: “يصعب علينا القبضُ على هذه المجوعات.”
ظهرَ محافظُ السليمانية هفال بابكر في برنامج تلفزيوني محلّيٍّ ليلقيَ باللائمة على بغداد التي لم تخصِّص سوى 30 مليون لتر من مادّة النفط الأبيض (الكاز)، من أصل 300 مليون وهو مجموع ما تحتاجُه المحافظات الثلاث. لتوضيحِ هذه النقطة، أفادَنا الدكتور غالب علي، رئيسُ لجنة النفط والصناعة والموارد الطبيعيّة في محافظة السليمانية، بتفاصيل نلخصُّها كالآتي: ما ترسلُه بغداد هو قليلٌ من النفط الأبيَض المدعومِ حكوميّاً؛ يُباع البرميل للمواطن وفقاً للبطاقة التموينيّة بـ 40 دولار. ورغم أنّه باستطاعة مِصفاتَي السليمانية وإربيل إنتاجُ ما يلبّي حاجات سكّان الإقليم من الكاز (482 ألف عائلة في السليمانية و700 ألف عائلة في محافظتَي دهوك وأربيل)، إلا أنّ معظمَه يُباع تجاريّاً ودون دعم، علماً أنّ مصفاة بازيان في السليمانيّة التي تديرها شركة “قيوان” تنتج 34.000 لتر، في حين أن مصفاة كلك في أربيل وتديرها شركة “كار” تنتج 82.000 لتر يوميّاً.
لا يؤثِّر ذلك فقط على موضوع التدفئة المنزليّة، بل وأيضاً على عمل التوربينات في محطّات توليد الكهرباء. إذ يَحصل المواطن في إقليم كردستان على 6 ساعات كهرباء حكوميّة نظراً للنَّقص في الكاز الضروري لتشغيل توربينات محطّات توليد الكهرباء. إذن، ليست بغداد هي الملامة في هذه النقطة، بل وإنّما الفساد الإداريّ للحكومة الكردية.
خلاصة وتوصِيات
تاريخيّاً، يُرجِّح النسقان السياسيّ والاجتماعيّ في العراق، بشقَّيهما الكرديّ والعربي، القيمَ الخاصّة بهيمنة الزعامة التقليديّة على رجل الدولة. لذلك يَتعارض فيه العامل الثقافي مع المبدأ الديمقراطي، ويَكبح التاريخُ القانون. ممّا جعل تصديق العراق على العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة لسنة 1966 والذي يقرّ في مادته الأولى بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، واتِّفاق المعارضة العراقيّة على المبادئ الديمقراطيّة لحكم العراق (مؤتمر لندن 2002)، دون أدنى تأثير على عمليّة تدوير الحقوق مؤسساتيّاً بين المكوِّنات العراقيّة المتعارضة.
يُمكننا أن نستخلص ممّا تقدم مجموعة اعتبارات يجب العملُ عليها وطرحُها في مجمل أعمالٍ قادمة، منها ما يتعلّق بإقليم كردستان، ومنها ما يتعلّق بالعراق:
عَكس الاستفتاءُ الغيابَ الكلّي للثقة بين القوى العراقيّة، وتحكَّمَ الفاعلِ الإقليميِّ في بناء القرار السياسيِّ داخل العراق. كما عكس غيابُ المصالح المشترَكة التي تجعل من فكرة التعاهد بين القوى السياسية مُمكناً. لذلك لم يتمكَّن العراق من تقديم نظامٍ سياسيٍّ غير احتِكاري، للبدء بتجربة التعدُّديّة السياسيّة المؤجلة. فالعراق بلدٌ متباين إثنيّاً ومذهبيّاً. وهو مجتمع متناقض أكثرَ من كونِه متفاعلاً. وعليه ظهرت فكرةُ المحاصَصة لتقاسم السلطة كمدخل إلى تجميد النزاع بين القوى المتعارِضة. وبذلك لم يصبح العراق مجتمعاً تعدديّاً. فــ “الأداة الأساس للتعددية هي فكرة التعاهد” التي تعكس منافعَ مشتركة قابلةً للتكامل فيما بينها. من هنا نتساءل حولَ العامل المتحكّم في نسق السلطة الحقيقيّة في العراق.
تندرِج حالة الحصار ضمن مبادئ إعلان الحرب. ومن الغريب أن تُعلن الحكومة الاتِّحاديّة الحصارَ على مجموعة من المفترض أن تكون جزءاً من شعبِها. كما أن تخصيص مجموعة ما بقوانين خاصّة هو أيضاً بمثابةِ إعلان حرب. الأمر الذي يؤدّي إلى نتيجة مركّبة يكثِّفُها فرانز ليوبولد نويمان في التالي: “عندما تُصبح العدالة سياسيّةً فهي تستَولد الحقدَ واليأس في صفوف أولئك الذين تستفرِد بهم في تهجُّمها. أما الذين تُحابيهم فيتشكَّلُ عندهم احتقارٌ عميق لقيمة العدالة نفسها”.
عكس الاستفتاء حالةَ تباينات داخل البيت الكردي واستمراريّة الشروخ التي رسمتها عقود من النزاع على السلطة. ورغم وضوح نتيجة الاستفتاء، عكست هذه التبيُانات التي أظهرها الانصياع إلى التوصيات الإيراينيّة، ضرورةَ الخروج من العباءة العراقيّة، المرهونة بدورِها لوصاية إيرانية.
مبادرة الاصلاح العربي