كوردي سوري معولم بعد سايكس بيكو

شفان إبراهيم

يُعتبر الجانب الثقافي المعرفي أخطر سلاح يوجّه المجتمعات. وما أن نتحدث عن ابتعاد فئات مجتمعية عن ذاك السلاح، حتى يتبادر للذهن مُحاربة قسم من المتنفيذ الكورد في سوريا للعلم والمعرفة. حينها يكون السؤال المطروح: هل حقاً لم يعد يهتم الكوردي في سوريا بالحواجز الجغرافية المصطنعة التي قسمت بلاده وحدوده, ولم يعد يُعيرها الأهمية التي عرفها على مرَّ السنين؟ أم يمكن القول إن العالم يجري بسرعة تضاهي سرعة الكوردي عشرات الأميال ثقافياً وتأسيسا معرفياً. فالوثائق والمنشورات التي كان يحتفظ الكوردي بها قديما أضحت اليوم منتشرة وبكثافة على جميع صفحات ومحركات البحث, والمساحات الشاسعة التي كانت الجرائد الكوردية تأخذ حيزها, بات من السهل جداً أن تُخزّن في قطعة صغيرة تُدعى ميموري كارت, وقِس على ذالك كل شيء متعلق بالثقافة والمعرفة والأحزاب السورية والكوردية، وآليات تثبيت الهوية الكوردية في سوريا والانطولوجيا الكوردية.

لكن الأخطر في الموضوع أتساع الهوّةَ بين العرض والطلب الثقافي بين الكوردي والعالمي, خاصة مع زيادة تدفق المعلومات بين سكان الأرض حتى أصبحنا أمام مجتمع صغير بألوان وثقافات وهويات متعددة كثيرة. إن كانت عملية تبادل المعلومات سلاح ذو حدين, فإن المجتمع الكوردي في سوريا هو المطعون بكِلا الحدين معاً. فمع العولمة التي لم يعد الأخر مجهولاً, بات من الافتراضي أن يُعلمَ ما يجول في العالم الأخر من تقنيات وتأسيس معرفي وتغيير للبنى الكلاسيكية, ولئن كان الإنسان عدو ما يجهل, فإن النتيجة المنطقية للواقع السياسي الكوردي وبؤس التخطيط الاستراتيجي، لابد أن يكون المجهول معلوماً, وهو الأمر المفقود كوردياً حتى الآن.

تزامناً مع الدعوة إلى الانفتاح والاندماج مع المتغيرات الثقافية والعالمية, فإن الدعوات للانكماش والتقوقع كوردياً ترتفع بوتيرة مطردة. بحجة إن عدم جهوزية الشخصية الثقافية الكوردية فإن  الانفتاح المتدفق على الأخر من مفاهيم الانتقال السلمي للسلطة، التعددية السياسية، تأهيل الأجيال لاستلام دفة القيادة، مراكز الأبحاث الإستراتيجية…إلخ يمثل خطر انهيار الثقافة والهوية القومية الكوردية وفق نظرية مُريدي الانكماش الكوردي. وثمة خطر على ارتهانها –الثقافة الكوردية- للاندماج أو محاولة التماشي أو حتى الأخذ بما يفيد وترك الضار, لذا –وبحسب هؤلاء- فإن الإبقاء على حالة الثقافة المتقوقعة التي تعاني من الضعف أو التي عانت التهميش الطويل, حتى تأسس لنفسها بنيانها الخاص هو الأمر الأنجع والأكثر صوابية. هؤلاء يتناسون أن مواكبة المتغيرات تتطلب الجهد الكبير, لكنهم يُدركون أن ذاك الجهد يتطلب كفاءات معينة, وهو السبب الكافي لإجهاض أي  خاصية يمكن أن تُعصف بهم إلى الدرك الأسفل.

وفق هذه الحالة العائمة بين الانفتاح والانغلاق, تعيش الثقافة الكوردية في سوريا اللاتوازن البنيوي بين العالمين المتناقضين, فالانفتاح يعني الدخول إلى عالم الإِنتاج لأبرز أساليب البقاء على قيد الحياة وإِنتاج متطلبات العصر, والانغلاق يُرزخ الثقافات تحت وطأة العالم الثالث والبطالة والجهل والفقر, بل إنه عالم بلا تطلعات يقتصر عمله على استهلاك ما ينتجه عالم الانفتاح. وهكذا وجد المثقف الكوردي نفسه بين عالمين, عالمٌ مهيمِنّ, وعالمٌ مهيمَنّ.

ربما يكابد الكوردي اليوم ليكون المستفيد الأبرز من كل ما يحصل في الشرق الرهيب, ومن المرجح إنه الأكثر فائدة من الانهيارات التي ستصيب الجغرافية الطبيعية والمصطنعة, بل أنه من سيرسم لنفسه حدوداً جغرافية لتطلعاته السياسية, وليصل إلى ما كانت أدبيات الكوردي في السياسية والتاريخ والجغرافية تناجي أقاصي الأرض لتفعيلها, لكن ثمة جغرافية راسخة لا تتغير, ولا تزاح, ولن يكون بمقدور المواطن الكوردي وفق الحالة التي يعيشها أن يتجاوزها, أو مجرد التفكير بمخاطبة من هم وراء تلك الحدود, هي حدود المعرفة والعلم والابتكار والإنتاج الثقافي. لا يمكن, لا يمكن أن يستوي من يَنتِجُ المعرفة مع مُستهلِكها, حتى وأن كانت للعدالة الإنسانية, أو للمواطنة العالمية دوراً في رفد الثقافات المقموعة والمُفقرة لرفعها, فإن ما اكتسحته العولمة الاقتصادية في سعيها نحو خلق المواطن السلعي, وفي فرض هيمنتها الإنتاجية, تدفع بتلك العولمة للسيطرة والاختراق وتوسيع الهوة بين الشعوب لا العمل على زرع بساتين من الزهور للتبادل العاطفي.

صحيحٌ أن الكورد وحتى هذه اللحظة لم ينالوا قرارهم السياسي السيادي بالكامل, حتى يتمكنوا من نيل كامل حقوقهم الاقتصادية, أو للانتقال من حالة الاستفادة من النفط إلى خلق موارد بديلة للإنتاج والثروة, لكن ما لا يمكن إغفاله أن الصناعة المعرفية والتكنولوجية الذكية المتداخلة في شتى مجالات الحياة, هما الثروة العصرية النظيفة والمفيدة والمتجددة, وهي – صناعة المعرفة- ليست ثورة ذكية فقط, بل الثروة الأكثر ضمانة للإبداع, وجمع الإنتاج لإعادة الإنتاج وفق المراد.

إن تمكنَ الكوردي من الضلوع في اختراق المعادلة الرقمية, أمكننا فهم الأسباب الرئيسية الكامنة وراء الانتكاسات السياسية والإستراتيجية الكبرى التي أصابت الكورد بسبب تخلفهم عن إنتاج المعرفة, خاصة وإن الكورد حرموا من كل شيء, ومنعوا من كل شيء, ولم يتمكنوا من الخروج من عباءة الاضطهاد والظلم والحرمان, فحرموا من ركب الثورة الصناعية.

اليوم تعيش البشرية أفول قوة النفط كمدماك رئيسي لبناء وتطوير وترشيق الاقتصاديات العالمية, ومن لم يملك البديل الأقوى بقي ضمن دائرة الأضعف, من لم يمتلك ثورة خلق الطاقات وترشيقها, وخلق الكفاءات وتطويرها, فلن يمتلك الثروة المادية, فأكبر ثروة يحتاجها الكوردي هي ثورة العقول النيرة التي تجد المساحة الأكبر للإجهاض والتنكيل والإقصاء ضمن الحزبوية الكوردية.

ومع كل الاستفادة التي ينالها الكورد من خلخلة الحدود الجغرافية القديمة,  فإن ثمة حدوداً أقوى ستبقى عصية على الكورد, حدود المعرفة والثقافة الفاصلة بين العالمين /المنكمش, والمنفتح/ ما لم يكن الكورد من حملة مفتاح رسم تلك الحدود, خاصة وأن الحدود الجديدة هي الأكثر استعدادً للتمدد والتطاول والاختراق, ما يخلق المزيد من العنف وثقافة صنع العنف, أو حمل مفاتيح الولوج إلى العالمية من أوسع أبوابها.

Comments (0)
Add Comment