منطقتنا ضحية أيديولوجيات حالمة وأنظمة فاشلة

 عبد الباسط سيدا – الحياة

لم تتمكّن أنظمة الحكم في دول المنطقة التي أُحدثت بعد الحرب العالمية الأولى من بناء مجتمعات متماسكة، تقوم وحدتها على إدراكها تنوعَها، واعترافها به، وإنما كان الهم الأساس لها هو فرض تصوّرها، انطلاقاً من أيديولوجيتها القومية، لما ينبغي أن تكون عليه الأمور من جهة التجانس القومي على مجتمع متنوع بطبيعته عبر مختلف مراحل تاريخه.

ومن الواضح أن التوجهات التي سادت مرحلة الاحتلالات والانتدابات كانت ما زالت طاغية، بل غدت مادة للمزايدات الشعاراتية، استخدمتها القوى العسكرية الناشئة في سعيها لأداء دور سياسي.

وقد جسّد حزب البعث خلاصة مكثّفة لتلك التوجهات، وتعبيراً نظرياً أيديولوجياً عنها. ومن ثم جاءت الناصرية التي كانت تنهل من المعين ذاته. ولكنها منذ بداياتها كانت على خلاف، إن لم نقل تناقض وجودي، مع المشروع البعثي، لا على مستوى المنطلقات النظرية والتوجهات القوموية والنزعة الاشتراكية فحسب، وكل ذلك خليط يتقاطع بهذه الصورة أو تلك مع التجارب الأوروبية لا سيما في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، والدول الاشتراكية، وإنما كان الخلاف بين البعث والناصرية على النفوذ والقيادة.

ومع تجربة الوحدة المصرية- السورية عام 1958 حقق التيار الناصري فوزاً موقتاً على البعث. وتمثّل ذلك في فرضه حل الحزب المذكور، على الأقل علنياً. ولم يكن حزب البعث في ذلك الحين يمتلك القدرات التنظيمية، ولا الزخم الشعبي الكافي لمواجهة مشروع الوحدة بنكهته الناصرية، لذلك آثر الانحناء في انتظار اللحظة المناسبة التي جاءت مع الانفصال في 1961، ليتمكن الحزب المعني بعد سنتين من السيطرة على الحكم في سورية بانقلاب عسكري في 8 آذار (مارس) 1963 كما يتذكر المخضرمون منّا.

ومنذ ذلك التاريخ، والحزب المذكور يسعى بكل إمكاناته، لفرض تصوره العقائدي الأحادي اللاتاريخي على مجتمع متعدد المكونات، تستمد ماهيته نسغها من تنوّعه.

وجاءت الضربة القاصمة للتيار القومي مع صدمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، إذ اكتشف الجمهور المسحور المخمور أن كل أمنياته وآماله كانت مبنية على السراب، وأن كل المزاعم النارية التي كانت تلهمه وتلهبه كانت مجرد شعارات للتغطية على الصراعات المحمومة بين مراكز القوى، والمتعطشين للسيطرة والسلطة.

وقد استغل التيار الإسلاموي السلفي الصدمة، فأعلن أن الحل هو الإسلام، ولكن أي إسلام؟ وبأي آليات؟ وكيف سيكون التعامل مع التنوع المذهبي والديني والفكري؟ وما موقع الحدود الجديدة من المشروع الماضوي؟

أسئلة ظلّت، وما زالت، مطروحة تنتظر الجواب، لا سيما في أجواء انقسام الإسلاميين على أنفسهم، وتوزع المذاهب والفرق.

وجاءت ثورة الشعوب الإيرانية على الشاه عام 1979، لتعطي المنطقة بارقة أمل، ولكن سرعان ما تبين بأن الأمل المعني لم يكن أكثر من وهم. فقد تمكّن الخميني وصحبه من السيطرة على مقاليد الأمور. وكانت سلسلة الإعدامات الجماعية التي كان الهدف منها التخلص من الخصوم السابقين، وإعطاء إنذار دموي للخصوم المحتملين. ومن ثم كان مشروع تصدير الثورة الخمينية إلى الدول المجاورة، وذلك عبر استغلال المظلوميات الشيعية في تلك الدول التي أخفقت أنظمة الحكم فيها في عملية بناء مجتمعات وطنية حية تستمد قوتها من أنظمة عادلة، تعطي الفرص لجميع المواطنين من دون أي تمييز أو تهميش أو تغييب.

ومع تبلور الأهداف الحقيقية للمشروع الإيراني الذي تمركز حول وضع المذهب في خدمة السياسة، كانت هناك حركة ارتدادية من جانب بعض حركات الإسلام السياسي السنية التي سرعان ما تحوّلت إلى أدوات بيد الدول، وتكرّست الصورة التي عبّر عنها أوباما حينما تحدث عن الإرهاب المنضبط والآخر المنفلت.

وليس سراً في هذا السياق، أن التوجه الأيديولوجي السلفي السني قد استخدم هو الآخر بقوة في ميدان الجهود التعبوية، وهي الجهود التي ظهرت في مرحلة ما بعد إسقاط حكم صدام حسين في العراق. ومن ثم تكررت الصورة بالصيغة ذاتها تقريباً في سورية، بعد أن دخلت الثورة السورية مرحلة العسكرة، لأسباب عدة لسنا بصدد التفصيل فيها هنا.

واللافت في الأمر هو أن المشروع الداعشي الأكثر تطرفاً ودموية الذي اعتمد من قبل رعاته ليكون وبالاً على الثورة السورية، لم يكتف بإظهار نزوعه المذهبي المتطرف، بل عمل في أكثر من مناسبة على تأجيج النعرات القومية من أجل نزاع مفتوح بين العرب والكرد، سواء في العراق أم في سورية، وهو نزاع ليس في صالح الطرفين، ولا من أهدافهما.

وقد اقتدت مجموعات أخرى متشددة بالتجربة الداعشية فهاجمت مع الجيش التركي منطقة عفرين بحجة محاربة حزب الاتحاد الديموقراطي، هذا الحزب الذي يعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وكانت له، وما زالت، ممارسات غير مقبولة بالمطلق في مناطق الجزيرة. كما تم استخدامه أداة لمقارعة داعش في المدن العربية مثل الرقة ومنبج وتل أبيض وغيرها، الأمر الذي أثار حساسية كبرى مشروعة من الجانب العربي، شأنها في ذلك شأن الحساسية الكردية المشروعة تجاه موضوع عفرين. هذا مع العلم أن الحزب المذكور ليس له أي برنامج قومي كردي، ولا يلتزم بأي ثابت من الثوابت التي توافق عليها الكرد. وإنما استخدم مراراً ضد كرد العراق، وكرد وسورية، وتسبب بتهجير أكثر من مليون كردي سوري من مناطقهم. ولكن مع ذلك هناك إصرار من جانب بعضهم على الربط بين هذا الحزب والكرد، تماماً مثلما يفعلون بالنسبة إلى العرب السنة وداعش.

ما نشهده من استقطابات وتخندقات على مستوى الانتماءات ما قبل الوطنية يعكس إلى حدٍ بعيد حالة التعارض بين المشاريع الإقليمية والدولية، ورغبة كل جهة في تمرير وبلوغ ما هو منسجم مع مصالحه، أو ما يحميه من التداعيات. ولكن من يدفع الضريبة هم الناس الذين لا مصلحة لهم في كل ما يجري، وإنما يتعرضون للقتل والتشرد، والضياع بين المخيمات وسراب اللجوء.

إنها حالة كارثية مأسوية تعيشها منطقتنا، والكارثة تصبح أعظم، وأصعب على المعالجة، حينما يتحول قسم من النخب إلى منظرّين لتسويغ ما يجري، ويسعون لإضفاء الشرعية عليه. بينما الواجب يلزمهم بمواجهة المشاريع الظلامية والهجينة والانتحارية بأخرى وطنية واقعية، تطمئن الجميع، وتفتح لشعوبنا المغلوبة على أمرها نافذة على المستقبل.

 

Comments (0)
Add Comment