أكرم البني – الحياة
إذا تجاوزنا القراءة النقدية لمسار الثورة السورية وما كرسته من عبر ودروس، ثم التحسر على مأساة لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً من هول الخراب وأعداد الضحايا والمشردين، وتجاوزنا الاعتراف بالهزيمة وتحميل مسؤولية ما وصلنا إليه، إن لعنف النظام المفرط أو لعسكرة الثورة أو لأسلمتها أو لفقدانها قيادة سياسية قادرة أو لسلبية المجتمع الدولي وانهزاميته، ثمة حقائق يفيد التوقف عندها، أرستها السنوات السبع العجاف من ثورة السوريين.
أولاً، لمن لا يزال يبحث عن حل سياسي للمحنة السورية، فليس من حل مرتقب، والدليل ليس فقط الفشل المتكرر لمفاوضات جنيف الماراثونية أو عودة خيار العنف ليتصدر المشهد ويغدو الفيصل في تقرير مصير أرياف إدلب وحماة وحمص والغوطة الشرقية، أو لصعوبة تحقيق تسوية مستقرة ومتوازنة في ظل تعدد وتضارب مصالح الأطراف المؤثرة بالصراع السوري، بل بسبب جوهر نخبة حاكمة ديدنها الاستمرار في السلطة وتعي أن السياسة هي مقتلها أو كعب أخيل بالنسبة إليها، ما يعني أن أي رهان على تنازلات سياسية قد يقدم عليها النظام السوري، مهما اشتد ضعفه أو الضغوط التي تمارس عليه، هو رهان خاسر، ويعني تالياً أنه سوف يذهب بخيار العنف والسحق حتى آخر الشوط، مستخدماً أشنع وسائل الفتك والإفساد ومستجراً كل من يعادي مطالب الحرية والمساواة والكرامة ليعيث قتلاً وتدميراً باجتماع السوريين، من دون أن يكترث بآلام البشر وما يكابدونه، أو بتهتك وانهيار وطن طالما تغنى بتعدديته وتعايش مكوناته، ومن دون أن يأبه بأي رد فعل دولي أو عربي، ساخراً من التهديدات الخلبية لاستخدامه مجدداً غاز الكلور في الغوطة الشرقية!.
ثانياً، وجهت السنوات السبع العجاف صفعة موجعة وربما قاتلة لظاهرة الإسلام السياسي وتالياً لاندفاعات تصدرت المشهد العربي خلال العقود الماضية، عنوانها اللجوء إلى الدين وتوظيفه سياسياً لمعالجة مشكلات المجتمع وأزماته، والصفعة لا تتمثل فقط بالهزيمة المتوقعة لتنظيم داعش وانهيار «خلافة» أعلنت الحرب على العالم أجمع، وتوهمت أن تستعيد بإرهابها المقزز ماضياً إمبراطورياً إسلاموياً، أو بنبذ شعبي وإن تأخر، لقوى سلفية جهادية، اخترقت صفوف السوريين وأفقدت ثورتهم جوهرها الوطني ورسالتها السياسية في بناء دولة المواطنة والديموقراطية، أو لجماعات إسلاموية نجحت في تعبئة قطاعات مهمة من السوريين في مواجهة النظام، لكنها تنكرت لما رفعته من شعارات وطنية ما أن استقرت سلطتها بسطوة السلاح، يحدوها الفشل الذريع في إدارة مناطقها وممارسة قمع وتمييز وفساد يقارب ما كابده الناس من السلطة السورية، بل تتمثل، وهو الأهم، بتعرية النظامين الإسلاميين في إيران وتركيا، حيث فضح تدخلهما الدموي والسافر في سورية حقيقة الراية الإسلامية التي يرفعانها، وأنها ليست أكثر من وسيلة تستخدم لتمرير مصالحهما الوضعية وحساباتهما الرخيصة بعيداً من جوهر الإسلام الحقيقي الذي ينشد خير البشر وصلاحهم… تعرية لم تقف عند تنكيلهما بالشعب السوري، عرباً وأكراداً، واستباحة أرواحه وممتلكاته وأرضه، وإنما امتدت لتشمل فشل برامجهما السياسية والتنموية التي يدعيان أنها تستند إلى اجتهادات دينية في قيادة المجتمع ومعالجة مشكلاته.
والمشهد تسعير الحروب ومعارك النفوذ الخارجية، هروباً من أزمة اقتصادية مزمنة وأوضاع معيشية خانقة أطبقتا على أرواح الإيرانيين بعد عقود من الحكم الإسلامي وحضتا مراراً على التحرك والانتفاض، ثم التفافاً من حزب العدالة والتنمية التركي على تراجع شعبيته بدليل الانتخابات الأخيرة، ربطاً بانحسار موجة الانتعاش الاقتصادي التي مكنته من الوصول إلى الحكم، وبتسعيره المجنون ضد الأكراد أينما كانوا، وبتوسل محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة لتشديد قبضته القمعية والانتقامية، ثم سلوكه المذل لاستجداء مصالحة مع إسرائيل وروسيا وربط مصالحه الإقليمية بمصالح الأخيرة.
في ما مضى، أفضت هزيمة البرنامجين القومي والاشتراكي، واستمرار ظلم الناس وتردي حياتهم وتعرض المسلمين منهم للتمييز والحرمان كما لنزعات الاستفزاز والاستخفاف الطائفيين، إلى اتساع الفئات المهمشة والمحتقنة وتوفير تربة خصبة مدت جماعات الإسلام السياسي والجهادي بأسباب النمو والتجدد، لكن اليوم، يبدو أن التجربة المريرة لهذه الجماعات وما خلفته من تدمير وضحايا وظواهر استبداد وفساد وعجز عن الانتصار لحقوق الناس والمسلمين، قد قالت كلمتها وأكدت أن خلاص المسلمين لن يتأتى من الغرق في خصوصيتهم الدينية بل من التنطح لدورهم الرئيس في الدفاع عن مصالح الناس عامة، والتمسك بما رفعته ثورتهم من شعارات تضمن للجميع حقوقهم من دون تمييز.
ثالثاً، دشنت الثورة السورية مناخاً عالمياً جديداً يقارب مناخ الحرب الباردة، وشكلت فاتحة لاستعادة روسيا وزنها السياسي وهيبتها العسكرية، مع انكفاء الولايات المتحدة وانسحابها من موقعها كقطب وحيد سيطر عالمياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفلات الأدوار الإقليمية لدول أقل أهمية مثل إيران وتركيا، ثم ما خلفه المشهد الدموي وتصاعد وتيرة هجرة السوريين وأذى الإرهاب الإسلاموي من شحن للروح العصبوية والشعبوية في بلدان الغرب، لنلمس عودة لسباق التسلح وتسويق أحدث الأسلحة الفتاكة، ونزاعات ديبلوماسية واقتصادية، بعض وجوهها، الاختراقات الإلكترونية والحد من حرية التجارة وتعزيز الحماية الجمركية، والأنكى حضور الصورة النمطية البغيضة لدول كبرى تستهتر بمصير البشرية وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لمصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، وتالياً الصورة المخجلة لمؤسسات أممية ضعيفة وعاجزة عن تحقيق أي اختراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان.
أخيراً ثمة حقيقة ذاتية أرستها السنوات السبع العجاف تتجاوز حزن السوريين وتحسرهم المشروعين على ما وصلت إليه ثورتهم، أو ندمهم على ما رافقها من اندفاعات وحسابات خاطئة، وتصل إلى الاعتراف الصريح بمسؤوليتهم عن دوام نظام الاستبداد والوصاية وبأن ثمن حريتهم الباهظ هو نتيجة لصمتهم وتأخرهم في النهوض ومقاومة كل أشكال القهر والتمييز.