سميرة المسالمة – الحياة
احتفى الرئيس السوري بشار الأسد بـ «انتصاره»، في استعادة السيطرة على بعض المناطق التي كان فقدها نظامه خلال حرب دامت سبع سنوات وأُجبِر خلالها على الانسحاب من أكثر من خمس وستين في المئة من الأراضي السورية، تحت ضربات «الجيش الحر» بداية، ثم بدخول تنظيمات إرهابية كـ «النصرة» و «داعش»، اللذين حققا تقدماً كبيراً داخل الأراضي السورية، سواء بعمليات انسحاب مشبوهة من القوات النظامية، أو بقتالها «الجيش الحر» واستيلائها على مواقعه التي سميت «محررة»، ومن ثم دفعه إلى الانحسار إلى مناطق محدودة. وفي المحصلة فإن ظهور هذين الفصيلين أثار علامات ارتياب كثيرة في شأن الدور المناط بهما في مسار الثورة السورية، إن في ما يتعلق بانحراف بوصلتها، وإزاحتها عن مقاصدها الأساسية، أو بطريقة عملهما وصراعاتهما ضد الجيش الحر أو حتى الفصائل العسكرية الإسلامية الأخرى، بما في ذلك سعيهما إلى خلط الأوراق داخل كيانات الثورة والمعارضة، سواء السياسية منها، أو المسلحة الملحقة بها، بدوريها الوطني، الذي استوجب الدفاع عن المدنيين في وجه قوات النظام الأمنية والعسكرية، التي استهدف المواطنين في تظاهراتهم وبيوتهم وعملهم، أو بالدور الفصائلي، المتعلق بالأجندة الإيدلوجية الموجهة وفق الدول الداعمة لها.
ويسيطر اليوم النظام السوري مع حليفتيه إيران وروسيا الداعمتين له في حربه ضد الشعب السوري الراغب في التحرر من حكمه، على ما يقرب من 55 في المئة فقط من مساحة سورية التي استلمها بشار الأسد من والده كرئيس لها عام 2000، ما يعني أن «سورية الأسد» ذات المساحة التي تفيض عن 185 ألف كيلومتر مربع، التي ورثها الابن عن الأب لم تعد موجودة على خريطة الجغرافية الحالية، وأنه لا يملك السيطرة الفعلية حتى على نصف المساحة من سوريا التي تتقاسم الهيمنة عليها جواً روسيا وبراً إيران، ما يبرر حالة التململ داخل أوساط المولاة من واقع الاحتلال غير المعلن من الدولتين الحليفتين، إضافة إلى واقع السيطرة الأميركية على ما يقرب من 23 في المئة شمالاً وشرقاً، تحت عنوان سيطرة قوات «قسد»، ويمكننا القول إن ما يسيطر عليه الجيش الحر جنوباً أيضاً يقع ضمن النفوذ الأميركي غير المباشر، بينما يذهب نحو 12 في المئة لمصلحة الجيش الحر في ريف دمشق وإدلب وشمال حلب والأخيرتين غالبيتها تحت النفوذ التركي،الذي يتوسع حالياً على حساب مساحات قوات سورية الديموقراطية، في مناطق عفرين ويتطلع إلى منبج، وتبقى داعش رغم الإعلان عن انتهاء الحرب عليها تتراوح نسبة سيطرتها بين 7 إلى 9 في المئة، ما يعني استمرار سببية وجود قوات التحالف بالقيادة الأميركية لمحاربتها.
ومع مضي سبع سنوات على انطلاقة ثورة السوريين في 2011، التي استهدفت إسقاط النظام الأمني، وإبعاد رموز الاستبداد والفساد عبر تظاهرات سلمية تستهدف التأثير في بنية النظام لإنتاج نظام جديد يقطع مع عهد الاستبداد والتغول الأمني على حقوق المواطنين السوريين ويحقق شعار «واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد»، من خلال إلغاء كل القوانين الاقصائية التي أصابت وحدة السوريين في مقتل وخاصة ما يتعلق بحقوق المكونات غير العربية جميعها، ومنها المكون الكردي الذي خصه النظام بإجراءات تعسفية، مهدت أكثر لتهيئة الأجواء لانفجار المواجهات مع النظام السوري في مناطق سكنهم (شمال شرق سورية)، ومع بداية العام الثامن، وفي ظل أشد المعارك الشرسة، التي يخوضها النظام مع حلفائه طهران وموسكو في الغوطة الشرقية ضد الأهالي المدنيين لتهجيرهم وتدمير بناهم، وفي الوقت ذاته تخوض تركيا الحليف للمعارضة حربها «التركية ضد خصومها من الكرد» على الأراضي السورية، ما وسع دائرة المأساة السورية لتعم البلاد من جنوبها حتى شمالها، ما يعني أن السوريين مطالبون بإعادة ترتيب مصطلحات ثورتهم، وتمييزها عن المخالطات التي أقحمتها المداخلات الإقليمية والدولية والمخابراتية، وأصبحت عبئاً على الثورة بمفهومها الإنتاجي لدولة مواطنين أحرار متساويين، كما أصبحت في مكان آخر مجتمعياً، حيث نجحت أدوات النظام في زرع بواكير إنتاج حرب على أساس مذهبي شيعي– سني، وعلى أساس قومي عربي- كردي.
وليس الحديث هنا من باب اعلان الهزائم، التي منيت بها المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، على قدر متساو مع النظام الحاكم، خلال تعرجات وانحدارات الطرق التي سلكتها في ممارساتها وارتهاناتها الخارجية، وأدلجة العسكرة الفصائلية، وأسلمتها، وضياع خطابها الوطني في ظل متناقضات الدول المتدخلة في الصراع على سورية، وتحكمها بأدواتها الفصائلية المسلحة، وانهيار منظومة التوافقات السياسية بين السوريين العام بعد الآخر، وإنما لضرورة أن نعرف أن المراجعة النقدية لمسار طويل من عمل هيئات المعارضة، الذي غرق بتفاصيل البحث في أروقة ودهاليز البحث عن مخلّص «خارجي متبرع» لإسقاط النظام وتسليم قيادة المعارضة زمام الحكم، في مشهدية توحي بسطحية التعاطي مع تقاطعات المصالح الدولية، التي سمحت لنظام الحكم في سوريا بالتعاون مع إيران ودخول قواتها إلى مناطق حدودية مع إسرائيل، كما اتاحت الفرصة للتدخل الروسي العسكري لإنقاذ نظام الحكم الذي كان حسب التصريحات الروسية قاب قوسين أو أكثر من سقوطه،ما يعني أن القضية السورية لم تعد بين طرفين محليين، وإنما هي إعادة إنتاج واقع جغرافي وديمغرافي ودولتي جديد للشرق الوسط بعمومه.
وضمن ما يجب الخوض به في إعادة تعييناتنا لمفردات واقعنا ونحن نعبر إلى عام آخر من مأساة سوريا تحت نظر العالم، هو مواجهتنا لأسئلة مسكوت عنها، من باب هل ما يجري في سورية اليوم هو ضمن سياق ثورة الحرية، أم انه ضمن عملية منظّمة عطلت تلك الثورة، وغيرت بوصلتها؟ وهل مؤسسات المعارضة السياسية هي جزء منبثق ومتكامل مع الثورة، أم أنها مفرز شبه سياسي لحرب طويلة؟ وهل المفاوضات التي تحدث اليوم في «آستانة» وقبلها وبعدها في «جنيف» و «سوتشي» وعواصم عديدة هي من أجل حل عادل لثورة شعبية هدفها الحرية، وبناء نظام سياسي جديد لا يتسامح مع أي طرف شريك في إراقة دماء السوريين، أم هي تسوية بين أمراء حرب مسلحين وسياسيين، يدفع السوريون المدنيون المؤمنون بقيم ثورتهم ثمنها، بخلع جذورهم من مناطقهم بعد أن قتل الكثير منهم وهجروا؟
إن البحث عن إجابات لا يعني التشكيك بما أنجزته الثورة من حقائق على الأرض، فالثورة ألغت مفهوم «الحكم إلى الأبد» من منظومة العمل السياسي السوري، حتى ضمن مصطلحات النظام، في حين أن النظام باستدعائه التدخل الخارجي ألغى مفهوم الجيش الوطني، وأطلق العنان «لمقص» تقسيم سورية إلى سوريات، منها، روسية، وإيرانية، ومذهبية، وترك لنفسه من 185 ألف كيلومتر مربع مساحة القصر الرئاسي فقط، في حين أن ارتهان قرار المعارضة للعامل الخارجي، ترك أيضاً مجالاً لسوريات مختلفة، منها تركية وأميركية وبابتعاد مؤسسات المعارضة عن دورها في تفعيل الحوار الوطني مع الكرد أضافت احتمالية سورية الكردية، أي ما بين إسقاط النظام الحالي «لسورية الأسد» التي استلمها عام 2000، خلال حربه على السوريين، ومابين اسقاط قيادات المعارضة لدورها في تشكيل المشروع الوطني يكون السؤال عن أي من السوريات يدافع كل طرف من أطراف الصراع في سورية؟