وليد شقير – الحياة
بإمكان فلاديمير بوتين أن يتخفف من وعده للرأي العام الروسي بأنه سيسحب الجزء الأكبر من قواته من سورية الذي قطعه لهم في كانون الأول (ديسمبر) الماضي قبل الانتخابات الرئاسية بعد أن ضمن المنصب لست سنوات أخرى.
إلا أن وظيفة الخديعة هذه لم تكن فقط انتخابية بل ميدانية. سبق لبوتين أن بشر بسحب قواته في آذار ( مارس) 2016. ثم تمكنت المعارضة من تنفيذ هجمات مدعومة في عدد من المناطق شملت ريف اللاذقية وريف حماة. بعد الخديعة بأشهر بدأ الهجوم والحصار الطويل على شرق حلب لتسقط في يد النظام والروس والإيرانيين أواخر العام نفسه. ثم بدأ مسار آستانة مطلع 2017، والذي أرادته موسكو بديلاً من مسار التفاوض على الحل السياسي في جنيف، معتمدة على التباعد بين واشنطن وأنقرة نتيجة دعم الأولى للقوات الكردية. تخلى المجتمع الدولي عن حلب وبادلت تركيا سقوط المدينة بإطلاق يدها في مدينة الباب.
السيناريو نفسه تكرر في محطات عدة من الحروب السورية المتنقلة، وصولاً إلى الغوطة الشرقية، فمقابل تخلي أنقرة عن دورها الشريك في رعاية اتفاق خفض التصعيد في أيار (مايو) الماضي، في 4 مناطق بينها الغوطة، أُطلقت يدها في عفرين.
وفيما أخضعت مناطق خفض التصعيد خريطة تواجد فصائل المعارضة إلى توزيع جديد لمناطق النفوذ بين موسكو وواشنطن وتركيا وإيران ومعها الوجود الروسي، تحول الميدان السوري تدريجاً إلى حرب بالواسطة زادت من استعارها عوامل عدة: امتناع واشنطن عن تخفيف العقوبات على موسكو بسبب سلخها القرم عن أوكرانيا، التنازع على التحكم بالمناطق الغنية بالنفط والغاز في سورية والمنطقة، طموحات إيران بتوسيع نفوذها نحو الحدود السورية- الإسرائيلية، بالتزامن مع الملاحقة الإسرائيلية المدعومة أميركياً والمجازة روسياً، لهذا التوسع بالغارات والقصف، وأخيرا الانكفاء العربي عن سورية ما ترك فصائل مقاتلة فريسة لقوات النظام وحلفائه.
لكن التنازع على النفوذ بين الدولتين الكبريين خلق دينامية عسكرية جديدة جعلت مصلحة السوريين بالحل السياسي في آخر الاهتمامات، وحولت دماءهم إلى وقود الفصول الجديدة من الصراع. كلاهما استخدم غطاء محاربة «داعش» و «النصرة» (هيئة تحرير الشام)، من أجل التقدم، حتى بعد التنافس على إعلان الانتصار على الإرهاب الذي كان يفترض أن يسهل الولوج إلى الحل السياسي.
كادت المواجهة بالواسطة تخرج عن السيطرة مرات عدة لا تلبث الدولتان والقوى الإقليمية أن تلجمها: مقابل قصف لقاعدة حميميم مطلع كانون الثاني (يناير) الماضي ردت عليه الطائرات الروسية بغارات وحشية على إدلب والغوطة. إسقاط طائرة سوخوي مطلع شباط (فبراير) بالتزامن مع دخول قوات سورية الديموقراطية دير الزور، قابله إسقاط طائرة «أف 16» إسرائيلية. مقتل زهاء 200 من المرتزقة الروس العاملين بإمرة الجيش الروسي في 7 شباط عند محاولتهم اقتحام شرق الفرات مع تشكيلات تابعة للنظام من أجل التقدم نحو أحد آبار النفط، قابله الهجوم المحضر على الغوطة ورفع حدة القصف الهستيري ضد المدنيين في قراها. وفي الفصل الأخير من حرب الغوطة لم تلبث التهديدات الغربية بتوجيه ضربة لقوات النظام بحجة استخدامها السلاح الكيماوي أن تلاشت للإبقاء على الحرب بالواسطة، إفساحاً في المجال أمام التحضير للقاء بوتين ودونالد ترامب.
يستفيد نظام الأسد من تنامي هذا الصراع الدولي الذي بات أداة فيه أكثر من أي وقت من أجل إطالة أمد بقائه، فهو يتنقل في خدمة أجندة الحليفين الروسي والإيراني، أو خدمة أحدهما حين يتعارض هدفه الظرفي مع هدف الآخر. هذا سلوكه حين تجيز موسكو لإسرائيل أن تقصف الانتشار الإيراني في سورية ومحيط دمشق فلا يرف له جفن. وهذا شأنه حين يتخطى الحرس الثوري الحدود على رغم تذمر قادة جيشه، إذا فتحت موسكو نافذة على الحل السياسي لعلها تتفاهم مع دول الغرب. لكنه في كل الأحوال يستخدم حروب الدول على أرضه من أجل مزيد من البطش، فالاتفاقات التي تعقدها موسكو مع مقاتلي الفصائل في الغوطة من أجل إخراجهم منها مع المدنيين يتحين تنفيذها من أجل تشريد هؤلاء مرة أخرى فتعتقل قواته المئات ليختفوا لاحقاً كغيرهم ممن دخلوا سجونه وقضوا، لينضموا إلى من سقطوا بالقصف الأعمى.
وحجة الإرهاب قابلة للاستحضار في أي وقت، آخرها تمكن «داعش» من الانتقال إلى حي القدم جنوب دمشق بتسهيلات من النظام، للتغطية على جرائمه في الغوطة.
لكن السؤال عما بعد الغوطة بات ملحاً في ضوء التحرش الدائم من الميليشيات الإيرانية بمنطقة درعا التي تشترك واشنطن برعاية وقف النار فيها.