ناصر الرباط – الحياة
تعريف السياسة على أنها فن الممكن، الذي ينسب لأوتو فون بيسمارك المستشار البروسي الذي أسس لوحدة ألمانيا عام ١٨٧١، يحمل تأويلات كثيرة. لعل أكثر هذه التأويلات تناقضاً هو أن الغاية نسبية عندما لا تكون ممكنة ضمن الظروف الراهنة، وأن الوصول إلى بعض الهدف هو هدف بحد ذاته.
هذا هو على أقل تقدير التعريف الأكثر رواجاً للسياسة في العصر الرأسمالي المتأخر الذي نعيشه اليوم، حيث صعدت الشركات الكبرى والمتعددة الجنسية إلى قمة هرم القرار عالمياً من دون أطر مساءلة ومسؤولية كافية، وحيث سيطرت مبادئ السوق من تفاوض وعقد صفقات وحسابات ربح وخسارة على السياسة العامة، حاجبة بذلك المبادئ التي كنا حتى وقت هزيمة الأيديولوجيات أخيراً نعتبرها أساسية بالنسبة لأي نظام حكم أو أي مؤسسة عامة. أهم هذه المبادئ التي يبدو أنها أصبحت من الماضي هو الأخلاقيات، هذا المصطلح الفلسفي الذي لا تؤديه كلمة أخلاق تماماً وإن كانت تدل عليه. الأخلاقيات بهذا المعنى ليست الأخلاق بالمعنى الديني أو الروحي فقط، وإن كانت تحويها وتبني عليها أحياناً. بل هي المبادئ المنطقية التي تتجاوز الآني والشخصي والتعبدي لكي تؤسس لأنظمة عامة تميز الصح من الخطأ، الفضيلة عن الرذيلة، أو الحق عن الباطل.
ما زال حكام اليوم يدعون الاحتكام إلى شيء من هذه المبادئ في قراراتهم وتصرفاتهم، خصوصاً في أعياد «انتخابهم» أو «البيعة لهم» أو عند ظهورهم في المحافل الدولية. وما زالت المحافل الدولية نفسها، التي أسست ضمن إطار هذه المبادئ الأخلاقية، تدعي تمسكها بها وسيرها على هديها. ولكن الأحداث تثبت أكثر فأكثر أنه لا الحكام ولا المؤسسات باتت تأخذ البعد الأخلاقي مأخذ الجد في قراراتها وتصرفاتها أو تحكم على نتائجها من خلال منظور أخلاقي. والأنكى أن عديد الجمهور أيضاً تخلى عن الميزان الأخلاقي في حكمه على حكامه أو في تعامله مع المؤسسات التي تسوسه. ميزان الربح والخسارة هو الميزان الأكثر رواجاً من دون حتى الادعاء بالتمسك بالأطر الناظمة التي دأبت السياسة الأيديولوجية في القرن العشرين بألوانها العديدة من ليبرالية واشتراكية وشيوعية ووطنية بل حتى فاشية وقومية عنصرية على ادعاء الاعتماد عليها.
السياسة أصبحت اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومن دون أي استحياء أو تعفف، «بيزنس». والتعامل في الشأن العام اليوم ليس أكثر من إدارة أعمال مرفقة ببعض من الرطانة والبلاغة. وما صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى قمة الهرم السياسي في العالم إلا التمثيل الأمثل لضمور دور المعايير الأخلاقية (أو ادعائها) لدرجة انعدام الحاجة لاستدعائها حتى في أكثر القرارات صعوبة. عقد الصفقات، الذي برع به ترامب قبل رئاسته، أصبح هو الأساس اليوم في التعاملات السياسية داخل الدول أو بينها، مع ما يتطلبه ذلك من حسابات وتنازلات وتغييرات، بل حتى تناقضات في سبيل الحصول على أكثر الممكن.
ولا يقتصر اضمحلال دور الأخلاقيات في الشأن العام وصعود عقلية السوق على الأنظمة والحكام والمؤسسات المالية الكبيرة، التي نظرت إلى الأخلاقيات دوماً على أنها عائق يجب تجاوزه أو التحايل عليه. بل يتعداه لكي يشمل المؤسسات غير الربحية والمنظمات الإغاثية التي يفترض بها أن تكون أكثر تمسكاً بالإطار الأخلاقي لعملها، حيث أنه يشكل في كثير من الأحيان مبرر وجودها. فالعديد من المنظمات الإغاثية، دولية أو غربية وشرقية وعالم ثالثة على السواء، منغمس في فضائح أخلاقية تهدد أساس وجوده، كما رأينا في فضائح الاغتصابات التي مارسها جنود يعملون تحت راية الأمم المتحدة في عدد من الدول الأفريقية المنكوبة بصراعات أهلية أو موظفو جمعية أوكسفام لمكافحة الفقر في هاييتي، أو كما تابعنا العديد من الفضائح المالية التي ارتكبتها جمعيات خيرية ذات تاريخ طويل من العمل التطوعي، التي امتدت في بعض الأحيان لعقود من الزمن، مع تواطؤ العديد من العاملين فيها أو تجاهلهم لها.
والخلل نفسه قد امتد إلى المؤسسات الثقافية والأكاديمية التي يفترض فيها لا أن تكون فقط معتمدة على إطار أخلاقي، بل أن تعريف الأخلاقيات وتطويرها وتعليمها لجمهورها هي أساس عملها تاريخياً. فالجامعات الكبرى، بما فيها جامعتي أنا، قد تخلت تماماً حتى عن ادعاء الاعتماد على الأخلاقيات في سعيها الحثيث للحصول على التمويل من أفراد وشركات ودول، بغض النظر عن خلفيتهم ومناهضتهم لأبسط المبادئ الإنسانية والليبرالية والمدنية التي قامت على أساسها غالبية هذه الجامعات. والحال نفسه في غالبية الهيئات الفنية والمتاحف الكبرى التي امتد إليها أيضاً همّ التمويل وبناء المَحافظ المالية المناسبة، بحيث تخلت حتى عن اللياقة والحشمة في محاولاتها اصطياد أي ممول لتوسيع مؤسستها أو إغناء مجموعاتها. هذه المؤسسات كانت دوماً تعتمد على المال الخاص في الغرب لدعمها، ولكنها في الماضي حافظت على نوع من العقد الاجتماعي في تعاملها مع مموليها، الذين فهموا حدود تأثير تمويلهم، وانصاعوا لمبادئ الأخلاقيات العامة، حتى ولو اقتصر الأمر في بعض الأحيان على المظاهر.
هذا عن الغرب الذي ما زالت غالبية دوله تدار بالانتخابات وتداول السلطة واحترام الدستور والقانون. وما زالت لديها آليات تراقب الامتثال بهذه المبادئ الناظمة للحياة العامة وتراقبها وتفرضها عندما يكون هناك مبرر لذلك. أما في المناطق الأخرى من العالم، حيث تسود أنظمة لا شفافية لها ولا مساءلة، فضمور الأخلاقيات، على ضعفها أساساً بسبب الطغيان وقلة الخبرة، أعمق وأشد وأكثر ضرراً. هذه هي حال غالبية العالم العربي، خاصة ذلك الجزء منه الذي نكب أخيراً بحروب «أهلية» أو «مؤهلة»، حيث تراخت قبضة أي قانون ينظم العلاقات العامة، حتى القانون التعسفي الذي كان سائداً في عديد هذه الدول، وتراجعت حاجة الحكام لادعاء الانتساب إلى المبادئ الأخلاقية العامة بدعوى مكافحة الإرهاب أو الفتنة أو غيرها من المصطلحات الفضفاضة. في هذا الجو المأزوم، أصبح «العنف»، هذا المفهوم غير المفهوم خارج إطار التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع، عارياً تماماً في بزوغه كأساس للتعامل بين أنظمة الحكم والأفراد وبين الأفراد أنفسهم. وتحولت الأخلاق إلى ورع ظاهري وتزمت اجتماعي واضطهاد للأفراد المغايرين ليس إلا.