الحرية قيمةً عند عزمي بشارة

سمير حمدي – العربي الجديد

يطرح المفكر العربي، عزمي بشارة، في كتابه “مقالة في الحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، جملة من الإشكالات حول مفهوم الحرية، ويميل إلى الابتعاد عن الخوض في ميتافيزيقا الحرية بأشكالها الجدلية المختلفة، كما تم تناولها في تاريخ الفلسفة وعلم الكلام، وينطلق من أطروحة أساسية، مؤدّاها “أن الحرية كقيمة تعني الحرية كحريات”، وأن هذا المفهوم المعقد والمتشعب لا يمكن مقاربته بمعزلٍ عن ارتباطه بالممارسة الإنسانية في المجتمع. ومن خلال هذا المنطلق النظري العام، يطرح مشكل راهنية سؤال الحرية في المجتمعات العربية وشروط ممارستها، وهل يمكن المفاضلة بين الحرية وقيم أخرى كالوطنية أو الاستقرار وحق الأمن.

يقوم التناول الفلسفي الذي يطرحه عزمي بشارة على مجاوزة فكرة البحث في الحرية “كأنها مفهوم قائم بذاته”، فلا وجود لحرية كوزمولوجية، فالحرية “هي في الوعي وفي الممارسة الإنسانية، وليست في الكون القائم خارج الوعي الإنساني”، وهي بوصفها قيمةً تتجلى حرياتٍ على أنواعها المختلفة، كحق الإنسان “في أن يكون سيد قراره في مجالات حياته المختلفة، نمط حياته، إيمانه الديني، رأيه السياسي والتعبير عنه، استقلالية الإنسان بنفسه وجسده”، وكل هذه الخيارات تفضي إلى ارتباط هذه الحرية بمسؤولية الإنسان عن خياراته، ونتائج هذا الاختيار، فلا يمكن اعتبار ما يقوم به الإنسان في ظل القسر والإجبار استحقاقا، ولا إخفاقا، ولا يمكن أن يكون مسؤولا عن أفعال أو قراراتٍ ليست نتاجا لإرادته الحرة نابعة من وعيه.

ومن هذا المنطلق، ينتقد عزمي بشارة التصور الذي يجعل بسط الحريات ونشرها مقترنا بنضوج كل أفراد الشعب، ووعيهم بها، والقدرة على ممارسة الحريات المتاحة، ذلك أن الوعي، وإن كان شرطا للحرية في اقترانها بالمسؤولية، فإن الوصول إلى هذه الدرجات من الوعي ليس ممكنا من دون ممارسة حريات، “مثل حرية الرأي والتعبير والاجتماع والاتحاد وحق الوصول إلى المعلومات وغيرها من الحريات المدنية”. وهنا دور النخبة في التأسيس للمناخ المناسب لانتشار الوعي بالحرية، ويقصد هنا النخب الحقيقية، وليست النخب المزيفة، حيث يُفترض مشاركة المؤسسات المجتمعية في هذه المهمة، وتوفر “نخبة من الأفراد الفاعلين الديمقراطيين الملتزمين بمبادئ الديمقراطية، وأهمها الحريات والحقوق التي تحميها”. ويشير، في هذا السياق، إلى أن المتابع لتطورات المشهد السياسي في البلدان العربية صُدم من مدى استخفاف النخب السياسية العربية بالحرية والديمقراطية، خصوصا “إذا كان الأمر متعلقا بحرمان الخصم السياسي منها”.

الأفراد، حسب التصور الذي يقدمه بشارة، لا يمكنهم أن يبلغوا درجةً من الوعي المناسب في ممارسة الحرية (حريات سياسية ومدنية)، إلا إذا مارسوها وتدربوا عليها، وهو أمر يشترط، حسب رأيه، وجود ما يسميها حلقات وسيطة (اتحادات وروابط طوعية ونقابية ومجال السلطة المحلية)، تساهم في تنشئة الفرد وتدريبه على الممارسة الديمقراطية السليمة. وبهذا التصور، يقدم عزمي بشارة مقترحا عمليا لتجنب وقوع الجمهور في إغراء الحرية غير المنضبطة، والتي قد تتحول إلى فوضى، قد تودي بالتجربة الديمقراطية ذاتها. وتميل الأنظمة الحاكمة القائمة على الطغيان إلى تخيير المحكومين بين الاستبداد والفوضى، وهي تحرص كل الحرص على منع نشوء هامشٍ من الحريات، يمكن أن تتشكل في ظله مؤسسات مجتمعية، أو نخب سياسية قادرة على لعب دور الحلقة الوسيطة الضرورية في تقديم النموذج للجمهور في ممارسة حرياتها من دون انزياح نحو الفوضى والانفلات.

ويناقش بشارة الطرح الخاطئ الذي يجعل المواطن العربي بين ثنائية الاستقرار وحفظ الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟ معتبرا إياه سؤالا وهميا، ذلك أنه لا يمكن بحال مقابلة القيم بعضها ببعض، فمن يقابل الحقوق السياسية بشعار الوطنية، أو يطرح المفاضلة بين قيمتي الحرية والحياة، إنما يمارس نوعا من المغالطة، لتبرير استمرار الاستبداد في صورته الأشد قتامةً، فلا مجال للمفاضلة بين القيم “وما يُفترض أن يثار فعلا هو سؤال عيني متعلق بواقعية تحقق مطلب الحريات”، ولا يمكن أن ندّعي أننا نتجنب المخاطر المفترضة للحرية على السلم الأهلي والانسجام المجتمعي، عبر مزيد من العنف والاستبداد، ذلك أن “ممارسة الحرية تؤدي إلى أخطاء، وربما كوارث، لكن لتصحيح المشكلات الناجمة عن استخدام الحرية سنحتاج إلى حرية، مثلما نحتاج إلى عقل لتصحيح أخطاء العقل”. ولا ينبغي تضليل الشعب عند المطالبة بتحقيق الحريات، حيث يصبح من الضروري “التمييز بين القوى التي تدعو إلى التغيير من أجل تأسيس الحريات، وتلك التي تدعو إلى التغيير من أجل تأسيس استبداد بديل”.

كتاب “مقالة في الحرية” محاولة جادة لتقديم تصورات واقعية قابلة للتحقق متى تمثلتها النخبة السياسية العربية، ووعت بمضامينها بعيدا عن جدل المفاهيم المجردة، فهو يتعامل مع الفلسفة بوصفها “براكسيس”، يمكنها أن تقدم خطة للممارسة السياسية. وفي هذا يشكل استمرارية حقيقيةً لرموز مفكري النهضة العربية، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي وعلال الفاسي المغربي وغيرهم، وهذا الاستئناف للخطاب الإصلاحي العربي المنقطع يشكل حاجة ملحةً، تفرضها وقائع التاريخ وتطورات المشهد السياسي العربي الطامح إلى التغيير والتحرّر من الاستبداد السياسي والانغلاق الفكري.

Comments (0)
Add Comment