حنا صالح – الشرق الاوسط
استعادة جيش النظام السوري معبر نصيب، وتقدم «المصالحات» في عشرات القرى والبلدات في كل منطقة «خفض التصعيد» الجنوبية، تبدو الحرب السورية؛ والأصح «الحرب على الشعب السوري»، قد وضعت أوزارها. ما بقي تحت سيطرة بقايا الفصائل المسلحة لا يتعدى جيوباً بسيطة معزولة، بالإضافة إلى تجمعات متواضعة عاجزة لـ«داعش» و«النصرة»، أما إدلب، التي تحولت إلى ما يشبه الثقب الأسود، فهي في التوقيت المناسب بين المطرقة الروسية والسندان التركي المطالب ببتر هذا الوضع.
اليوم باتت الخريطة السورية خرائط نفوذ… الأتراك عززوا وضعهم في الشمال ويتمركزون في عفرين، وهم يتحدثون عن اكتشاف مقر يعود إلى مصطفى كمال أتاتورك، قد يكون مقدمة لفرض وضع خاص على هذا الجيب ذي الأغلبية الكردية، ويتمركزون في جرابلس ومحيط منبج بعد الاتفاق مع الأميركيين، ويسيطرون عبر فصائل موالية لهم في تل رفعت وإدلب وبعض الريف الشمالي للاذقية.
«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» عززت سيطرتها في كل شرق الفرات؛ أي على 28 في المائة من المساحة السورية، لكنها المنطقة الأغنى بثروات النفط والغاز كما بالثروات المائية والزراعية، ومن كوباني إلى الرقة وناحية البوكمال ودير الزور استعادت هذه القوات بدعم أميركي كبير أهم المناطق من سيطرة «داعش».
القوات الأميركية ما زالت متمركزة في قاعدة التنف قرب المثلث الحدودي مع الأردن والعراق، وتنتشر في قواعد لها في شرق الفرات وحتى منبج، ويعلن قائد القوات الخاصة للتحالف الدولي الجنرال جيمس جيرارد، أن هذه القوات ستبقى في سوريا إلى حين التوصل لتسوية سياسية يقبل بها السوريون.
ما زال «داعش» موجوداً؛ وإن بفعالية متدنية، وذلك من خلال ما يسمى «جيش خالد» في حوض اليرموك وجيوب متفرقة في البادية كما في مناطق حدودية مع العراق في شرق الفرات.
وتحت القبضة الروسية تنتشر قوات النظام السوري المدعومة من الميليشيات المتطرفة لـ«الحرس الثوري»، من حلب شمالاً وحماة وحمص والساحل إلى دمشق والغوطتين وتدمر ودير الزور وصولاً إلى الحدود مع الأردن والجولان المحتل.
في كل هذه المشهدية بدت معركة الجنوب، التي أصرت روسيا على حسمها سريعاً، رغم انشغالها بالمونديال والصورة التي أرادت موسكو تقديمها للعالم، كأنها عملية تتجاوز حجم سوريا وموقعها ودورها. عملية عسكرية – سياسية مثيرة للاهتمام نتيجة تكثف أدوار أطراف مختلفة مؤثرة وفاعلة في المسألة السورية. من البداية انطلقت المعركة مع تسليم واسع غربي وأميركي خصوصاً ببقاء النظام السوري واستمرار رئيسه. وتسلم الجيش النظامي السوري من دون الميليشيات المتطرفة الحدود مع الأردن ومعبر نصيب، ولهذا المعبر أهمية كبيرة جداً لحجم العائدات. وشهدت هذه العملية عودة إسرائيلية علنية للمطالبة بالتزام دقيق باتفاق فك الارتباط في الجولان لعام 1974 وتنفيذه حرفياً؛ فلا يدخل الجيش السوري إلى القنيطرة، وتُحترم المنطقة العازلة التي توسعت، ويتم تحديد عديد الجيش ونوعية الأسلحة. هذا الاتفاق هو لإسرائيل ضمانة لحدود احتلالها؛ تماماً كما كان منذ عام 1974 عندما حوّل الأسد الأب وبعده الابن، الجيش السوري إلى حارس حدود السيطرة الإسرائيلية.
ولتأكيد المطالب التي تُمكن تل أبيب من مدِّ هيمنتها على الجنوب السوري، حمل نتنياهو إلى موسكو في زيارته التاسعة للعاصمة الروسية في أقل من عامين، مطلباً واضحاً برفض أي وجود للقوات الإيرانية والموالية لها في أي جزء من سوريا، وإثباتاً لهذا الموقف قصفت تل أبيب مساء الأحد الماضي، القوات الإيرانية في قاعدة «تي فور» وأوقعت بالإيرانيين إصابات مباشرة. توقيت الزيارة الجديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو لافت، لأنها تستبق بأيام قمة هلسنكي التي ستجمع الرئيسين ترمب وبوتين، والمرجح أن تشهد أكثر من صفقة بين القطبين، ومن المرجح أيضاً أن يتم فيها وضع النقاط على حروف عملية الجنوب السوري، خصوصاً لجهة المطالبة الأميركية لروسيا بضرورة إخراج القوات الإيرانية من سوريا. هذا الاستحقاق بات من الصعوبة بمكان على موسكو تجاهله، مع العلم بأن النفوذ الإيراني في سوريا ودور طهران في مجمل القرار السوري له تاريخ وجذور، وحكام طهران ليسوا بوارد الانصياع بسهولة لرغبات الكبار، ومن وجهة نظرهم يعدّون الانسحاب من الوضع السوري بمثابة المقدمة لكسر نظام حكم الملالي في إيران… هنا تبرز الصعوبة وتبرز الاحتمالات؛ وأولها أن تسعى طهران مع المتضررين من بطانة الحكم السوري لابتداع الأعداء وإطالة أمد الصراع.
هل سوريا اليوم أمام مرحلة بدء المتدخلين جني الغنائم والاستثمار في النصر الذي حققته روسيا بشكل أساسي وبأقل تكلفة عليها، وأضخم فاتورة دفعتها سوريا وكل السوريين؟ وهل تدرك روسيا، بوصفها الطرف الأقوى في المعادلة السورية، أنه إذا أرادت الحفاظ على أرباح جدية فعليها توظيف كل النجاحات المحققة مع الأميركيين وإلاّ فلا شيء ثابت؟ وبمقابل المحتمل عن جني الغنائم وواقع خرائط النفوذ على الأرض السورية، هناك خاسر كبير؛ هو سوريا، سواء أكان النظام الملحق، أو المعارضة السياسية المطعون في شرعية تمثيلها. سوريا هذه ربما لن تعود البلد الذي نعرفه أياً كانت التسوية الآتية مهما تأخرت. إعادة إعمار ما تم تدميره، وهو كثير، بعلم الغيب، والأخطر استحالة استعادة النسيج الشعبي السوري مع ملايين النازحين في الداخل من سوريا إلى سوريا، والأصعب هو: متى وكيف يمكن أن يعود ملايين المهجرين من لاجئين على أبواب المدن الأوروبية، وفي مخيمات تركيا والأردن ولبنان؟ ومن سيتمكن من العودة منهم إلى أين ستكون عودته؟!
اليوم آن أوان الأسئلة الحقيقية عن مسؤوليات الجميع عما حلّ بسوريا، وما كان يجب أن تُسأل المعارضة بخصوصه، منذ استعادة الروس حلب وما تلاها من تقطيع للمناطق، وجعلها بؤراً معزولة آيلة للسقوط: أسئلة عن المصير وعن الحاضر والمستقبل، خصوصاً أن الانتفاضة السورية التي تفجرت في درعا وبعدها حمص والغوطتين بدأت في أكثر المناطق رضوخاً للديكتاتورية، وتركت بصمة مميزة قبل استجلاب كل هذه الجيوش والميليشيات… وهذا حديث آخر.