باسل أبو حمدة – القدس العربي
تتعرج دروب خطاب الكراهية وتتلوى تداعياته ومخاطره بين مكونات المجتمع السوري إثر حقبة مديدة من الاستبداد مشكلة متاهة يصعب معها تشخيص الظاهرة ومسبباتها وقواها المحركة بعيدا عن رصد مروحة من المفاهيم والآليات التعبوية التي تعتمدها أحزاب سياسية خارج السلطة وداخلها في سياق الاستخدام السياسي والأيديولوجي لرقعة الموزاييك السورية بألوانها وأشكالها المتنوعة الغنية عن التعريف .ثمة اجماع على أن حال السوريين في اختلافاتهم وتشابهاتهم لم تكن على ما هي عليه الآن في أي مرحلة سابقة لظهور عدد من التيارات والأحزاب السياسية التي تدعي تمثيل هذا المكون أو ذاك وفي مقدمتها التيار البعثي ،الذي تمكن من الهيمنة على سائر مفاصل الحياة السياسية في البلاد ولم يسمح بظهور تيارات أخرى إلا على شاكلته وضمن شروط قاسية تبقيها تحت عباءته وتضمن تبعيتها له، وذلك لتأمين سيطرته المطلقة على الفضاء العام كما هو معروف.
وكان من الممكن لتلك الصيغة الفتاكة أن تستمر إلى أجل غير مسمى لولا اندلاع الثورة السورية المعاصرة، التي حركت المياه الراكدة على نحو غير مسبوق لكنه مشوه، وسمحت لتيارات أخرى بأن تطل برأسها المحشو بخطاب الكراهية ليس بعيدا عن حمى الاستخدامات السياسية والأيديولوجية ذاتها لآليات عمل هذا الخطاب السقيم في التحشيد والتعبئة بغية خلط اوراق اللعبة وحرف مسار الثورة السياسي باتجاه خلق صراعات جانبية تطغى على الصراع الرئيسي مع سلطة الاستبداد وتمدها بسبل الحياة بوصفها طرفا محايدا أو حتى مغلوبا على أمره، وهذا ما كان في واقع الأمر، فلقد تمكنت مجموعة لا يستهان منها من تلك التيارات من غرز بذرة الكراهية في ثنايا الرأي العام الخاص بكل مكون من مكونات المجتمع السوري على حدة، لا بل والتحالف، في بعض الحالات، مع سلطة لطالما قهرت تلك المكونات وصادرت حقوقها القومية أو الدينية أو السياسية بطبيعة الحال.
ضحايا يقتصون من نظراء لهم لمصلحة جلاد لا يرحم ولا يتوانى عن استخدام ضحاياه في نشر هذا الخطاب الرخيص لتأمين نفسه مدركا دون غيره لحقيقة مفادها أن جميع «انجازاته» العسكرية والأمنية الأخيرة ومجموع سبل الدعم والمساندة التي تلقاها من قوى اقليمية ودولية تشبهه على مدار سنوات الصراع لا تساوي نقطة في بحر ترسيخ خطاب الكراهية «الناجز» هذا بين تلافيف ومكونات المجتمع السوري، الأمر الذي من شأنه تأمين وسائل بقائه خنجرا مسموما في خاصرة هذا المجتمع فضلا عن كونه أداة فعالة لتهشيم أي مستقبل للتعايش السلمي بين تلك المكونات بعد سقوطه المحتمل في خطوة استباقية لا تخلو من روح الانتقام والتشفي بمن رفع شعار اسقاطه.
في المقابل، وفي محاولة منها للتصدي لخطاب الكراهية ومكافحة آثاره وتأثيره لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، تعقد رابطة الصحافيين السوريين سلسلة من المؤتمرات لمعالجة هذه الآفة المجتمعية التي تتخطى حدود السياسية والفكر لتلج إلى وجدان أبناء المجتمع الواحد. أحد تلك المؤتمرات عقد في العاصمة الألمانية برلين في منتصف شهر تموز/يوليو 2018 وحضره نحو 35 صحافيا سوريا معظمهم يعيشون مكرهين في القارة العجوز، التي تعاني ،بدورها، من تصاعد خطاب الكراهية أيضا، وشاءت الصدف أن جلهم ينتمون إلى مكونين رئيسيين من مكونات المجتمع السوري، والمقصود هنا العرب والكرد، فكان من الطبيعي أن تستأثر علاقة هذين المكونين باهتمام المؤتمرين ونقاشاتهم وحتى توصياتهم وتصويتهم في النهاية على صيغتين للتحرك واحدة تعنى بمكافحة خطاب الكراهية بين العرب والكرد حصرا وأخرى تعنى بمكافحة خطاب الكراهية بين سائر مكونات الشعب السوري عموما، ولقد أحسن المؤتمرون في اختيار الصيغة الثانية لأسباب تبدو جلية.
صحيح أن مؤتمر برلين لم يخرج بتعريف ناجز لمفهوم خطاب الكراهية وعلاقته الوثيقة بمفهوم حرية التعبير، وربما هذه ليست مهمته من الناحية الأكاديمية، وصحيح أيضا أنه لم يخرج بآليات عمل واضحة في هذا الاتجاه، لكنه نجح، بلا شك، في فتح باب الحوار بين مكونات المجتمع السوري، وهذا انجاز مشهود له بحد ذاته لجهة أنه يشكل استحقاقا طال أمد التصدي له وأداة لا غنى عنها في استهلال عملية سياسية من شأنها وقف النزيف المجتمعي السوري والبدء بمعالجة قضايا حساسة للغاية مثل خطاب الكراهية الذي لا يمكن أن تستقيم أي محاولة للتغيير السياسي بمعزل عنه. فلقد كسرت مداخلات المؤتمرين حالة من التقوقع على الذات تعد المحرك الرئيسي لتمادي هذا الخطاب مثلما كشفت النقاب عن مجموعة من المفاهيم المشوهة حول مفهوم الضحية والاستئثار بهذا الموقع «خطاب الضحية» في رقعة موزاييك المجتمع السوري كون المكون الكردي، على سبيل المثال، تعرض بالفعل ودون غيره لأبشع أشكال الاضطهاد خلال فترة زمنية طويلة نسبيا، الأمر الذي لا يختلف حوله عاقلان.
لكن حالة الاضطهاد المركب التي يتعرض لها مكون دون آخر ينبغي ألا تعمي العيون عن حالة الاضهاد الشامل التي يتعرض لها السوريون كافة بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو العرقية أو الدينية أو الطائفية أو الطبقية وما يترتب على ذلك من الارتقاء بمستوى وعي الذات لجهة القدرة على رؤية الواقع من منظور موضوعي ينأى بالفئات المتضررة من الاستبداد عن الوقوع في مطب الانتهازية والاستئثار بخطاب الضحية، ما يفسح الطريق واسعا أمام موجات من صراع الضحايا مع أنفسهم وترك ساحة الصراع المحورية فارغة يلعب المستبد فيها على هواه وكيفما يشاء، في حين يستدعي وعي الذات، كذلك، امكانيات وقدرات أنجع عندما يتعلق الأمر بقراءة معسكر الخصم وتحديد ملامحه وقواه تمهيدا للتصدي لها بعيدا عن أوهام التقارب والتنسيق معه.
والحال من الواقعية بمكان ،التأكيد في سياق مكافحة خطاب الكراهية ،على ضرورة الفصل بين ما تتبناه مكونات الشعب السوري من قضايا من جهة وبين الأحزاب التي تدعي تمثيل تلك القضايا من جهة أخرى، فللأحزاب أجنداتها الحزبية وسياساتها البراغماتية التي لا تتفق بالضرورة مع مظلومية هذا المكون أو ذاك ،لا بل إن مصيبة المصائب، في هذا السياق، تكمن في الدمج بين قضايا الشعوب وبين أحزابها أو أنظمتها السياسية على غرار الشعار الشهير والمقيت «سوريا الأسد» لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار تقادم تلك الأحزاب والأنظمة وانتهاء صلاحيتها ومشروعيتها واستنقاعها في ذواتها المهترئة.