محمد علي فرحات – الحياة
المتمسكون بأولوية الأسباب الاقتصادية يعزون الكارثة السورية المسماة ثورة، إلى شح في الأمطار أثّر سلباً على الزراعة حوالى ثلاث سنوات وإلى مسارعة بشار الأسد في الانفتاح الاقتصادي غير آبه باشتراكية بعثية متجذرة في إدارة المجتمع. هذا جزء من نقاش للمستقبل، لأن سورية تدفع الآن ثمن ضربتين، الأولى من نظام حديدي لا يعرف أي قدر من المرونة، والثانية من ثورة معلنة استسلمت منذ الخطوات الأولى إلى مجموعات مسلحة ترفع شعارات دينية متطرفة، أدخلها العالم وأدخلتها المنطقة في لائحة الإرهاب.
سورية، صريعة الضربتين، لم تستطع إلى الآن، خصوصاً مثقفيها، تشكيل هيئة حكماء غير محسوبة على النظام أو على المعارضات. هيئة مطلوبة، على الأقل، لتكون منارة للمواطن السوري العادي والشخصيات والمؤسسات العربية والدولية المهتمة في الشأن السوري. من يعرف مجريات الأحداث حقاً في ذلك البلد العربي المحوري؟ فسرد الأخبار جميعها لا يخلو من وجهات نظر مسبقة، كأن الحدث مجرد فرصة لإعلاء شأن طرف والخفض من شأن الطرف الذي يواجهه. ووصلت الأمور بالحدث السوري إلى انسحاب أو شبه انسحاب الوكالات الدولية، أما القلة النادرة ممن يتمسكون بمهنية الصحافة فنسمع عن مقتل عدد منهم واختفاء عدد آخر.
لا يكفي الخبر الصحيح لاتخاذ موقف صحيح. تلك أحداث عابرة مهما بلغت مأسويتها لن تغير المواقف: سوريون مع المعارضة ظالمة أو مظلومة، وسوريون آخرون ضد المعارضة التي فاجأتهم بدمويتها لكن موقفهم هذا لا يصل إلى تأييد علني للنظام.
قال لي معارض محبط إن سورية عائدة ولكن بالتقسيط غير المريح، يشتريها أهلها ليس بالمال إنما بالتخلي عن بعض السيادة في بعض المناطق، وبتأييد هندسة المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة على الأرض السورية، لئلا يؤدي تصادمها إلى تجديد حرب داخلية كانت تسمّى ثورة. ولفت المعارض المحبط إلى أن روسيا، بدفع من الولايات المتحدة، تتولى هذه الهندسة الصعبة، والمثال الأحدث هو المشاورات حول مصير منطقة إدلب، وهي تضم متطرفين رفضوا المصالحات في مناطق إقامتهم الأصلية أو مناطق حراكهم الجهادي التي اختارها لهم مرسلوهم. هؤلاء ليسوا قلة، ومعظمهم ينضوي في «جبهة النصرة» أو «جبهة تحرير الشام» أو «القاعدة»، اسمهم الأصلي.
لتركيا 12 مركز مراقبة في أدلب، وتعتبر المنطقة نقطتي تحد لسياق المصالحات السورية وللموقف التركي منها حين تصل إلى مناطق تحاذيه. وقد مهدت أنقرة لحل المشكلة بحد أدنى من العنف، حين شجعت ورعت توحيد مسلحين معارضين مناهضين لـ «النصرة»، لكن هؤلاء أضعف من مواجهة التنظيم القاعدي القوي عدّة وعدداً، لذلك لا بد من الحرب التي يتصدى لخوضها جيش النظام بتشجيع روسيا ورعايتها. ومن أجل ضبط الحرب سيسمح الأتراك بالهجوم على جنوب منطقة أدلب، خصوصاً جسر الشغور وسهل الغاب اللتين تنطلق منهما الطائرات المسيرة والصواريخ ضد القاعدة الروسية في حميميم. ثمة سيناريوات عدة لاحتواءمنطقة أدلب، لعل أبرزها ينطلق بعد المؤتمر الرباعي: التركي- الروسي- الفرنسي- الألماني، الذي يعقد في 7 أيلول (سبتمبر) المقبل، في محاولة لإشراك أوروبا في المصالحات السورية والدفع إلى عودة النازحين السوريين إلى وطنهم، وتمويل هذه العودة بالطبع مصحوب بخطط لإعادة الإعمار.
ولكن، ربما يبدو الوقت مبكراً، لأن أوروبا لا تزال غير واثقة بمسار المصالحات السوري الذي يعيد تظهير النظام. وتلتقي في هذا الموقف الأمم المتحدة وبريطانيا والولايات المتحدة.
هنا يسرّب مسؤولون روس أقوالاً من نوع: واهم من يعتقد أن سورية ستعود إلى ما قبل العام 2011 فلا بد من تغيير… تسريبات إلى أوروبا بأن المهندس الروسي للمصالحات، هو أيضاً مهندس النظام الجديد الذي يولد ببطء بعد إنهاء الحرب السورية ورعاية مصالح المستفيدين منها وتخلص أوروبا من عبء النازحين، أو معظمهم على الأقل.
سورية تستعاد بالتقسيط غير المريح، وفي غياب حكمائها الذين أعطوا العرب والعالم وبخلوا على وطنهم. ولكن لا بد من الانتباه الى أدلب فالحرب على «النصرة» هناك قد تفجر أزمة نازحين كثيفة لا تستطيع تركيا أردوغان احتمالها في يوميات صراعها الصعبة مع الولايات المتحدة.