إثر سبع سنوات من النزاع، سورية هي ميدان المعارك الوحيد في العالم حيث تنشط القوى العسكرية الأميركية والروسية والتركية والإسرائيلية، والجيش العربي السوري و «حزب الله» اللبناني، والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران، والحركة القومية الكردية، ومروحة واسعة من مجموعات المعارضة السورية، من المعتدلين الذين تدعمهم أميركا إلى المتطرفين المتحالفين مع «القاعدة» وداعش – ويضاف إلى هذه النشاطات كلها ضربات سلاح الجو الإسرائيلية الدورية. وتسلط هذه المرابطة العسكرية الواسعة الضوء على أهمية سورية في ساحة التنافس الاستراتيجية في الشرق الاوسط اليوم: تنافس بين القوى الكبرى وتنافس بين القوى الغقليمية. وسورية وازنة في ميزان المصالح الأميركية، فهي مسرح عاصمة داعش السابقة، وقد تتحول إلى ميدان طور جديد من العنف الجهادي السنّي، وهي حلقة حيوية من حلقات سعي إيران إلى السيطرة على ممر بري من المتوسط إلى جنوب غرب آسيا، وسعيها (طهران) إلى فتح جبهة جديدة مع إسرائيل. وسورية دولة (حلقة) مركزية، ولو أن قبضتها ضعفت وتراجعت مكانتها، وتملك ترسانة كيماوية خطيرة وهي مستعدة لاستعمالها، وهي جبهة أمامية في أكثر النزاعات المتقلبة الأوجه، بدءاً من النزاع العربي – التركي – الكردي في شمالها (الشمال السوري)، وصولاً إلى النزاع الإسرائيلي – الإيراني – الحزب اللهي في جنوبها. وسورية كذلك مصدر محتمل لسيل ضخم من اللاجئين يهدد استقرار دول الجوار (لبنان والأردن) وأوروبا؛ وهي منصة أو بوابة بحرية روسية واستخباراتية في شرق المتوسط؛ وهي موقع أكبر محاولة كورية شمالية رامية إلى الانتشار النووي: تشييد منشأة بلوتونيوم في قاعدة الكبر.
وروسيا قد لا تدعم طموحات إيران إلى الهيمنة من لبنان إلى جنوب غرب آسيا، ولا تريد أن تفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل. ولا تريد موسكو مرابطة دائمة للميليشيات في سورية تحكم قبضة طهران من طريق الميليشيات على البلاد، وتهمش دور الأسد. ومن طريق التعاون الوثيق مع الحلفاء، في وسع الولايات المتحدة الضغط على روسيا إذا هددت ما ترمي إليه موسكو: حماية نظام الأسد. وأكثر المؤهلين لزرع شقاق بين إيران من جهة وروسيا والنظام السوري من جهة أخرى هي إسرائيل. فهذه قادرة على وضع روسيا امام معضلة: إما تقييد عدائية إيران أو مواجهة احتمال حرب بين إسرائيل وإيران وحزب الله على الأراضي السورية، ما يهدد المصالح الروسية في المنطقة. وفي هذا السياق، تمس الحاجة إلى إرفاق العقوبات الأميركية على إيران بخليط من الديبلوماسية النشيطة بين الحلفاء الإقليميين (إسرائيل، تركيا، والدول الخليجية) وقيود على هامش حركة طهران. وهذا يُبلغ من طريق إبقاء عدد صغير من القوات الأميركية في سورية وإعادة فرض منطقة حظر جوي في شمال سورية التي تسيطر عليه أميركا وتركيا.
وإمساك القوات الأميركية الصغيرة العدد في شمال شرق سورية (30 في المئة من مساحة البلاد وأكثرها ثراء بالموارد النفطية والزراعية) يمنح واشنطن دالة على موسكو وطهران ودمشق ويرجح كفتها. ومع اتفاق طري العود حول منبج بين الولايات المتحدة وتركيا، حري بأنقرة وواشنطن الإجماع على الرؤية الأميركية في شمال شرق سورية، فيسع القوات التركية والقوات الموالية لأميركا السيطرة على 40 في المئة من مساحة سورية. واتفاق أميركي واضح مع أنقرة يُبعدها من عملية آستانة التي أطلقها فلاديمير بوتين لترسم موسكو وطهران وجه سورية المستقبلية. وتجب دعوة الشركاء الخليجيين إلى إرسال قوات برية وتقديم دعم مالي يعتد به والضغط السياسي على بوتين، والدول هذه تقربت منه في السنوات الخمس الماضية.
والإعلان عن عزم أميركا الطعن في منحى الأمر الواقع في سورية الذي يميل إلى موسكو وطهران، حيوي. فنظام الأسد بدعم روسي، يتجه في جنوب غرب سورية إلى طي الحرب الأهلية. والحملة الأميركية على داعش تنتقل إلى مرحلة جديدة في الشمال الشرقي؛ والحلفاء الإقليميون والخصوم يترقبون قرار ترامب حول مرابطة القوات الأميركية هناك، وفي منبج. وانسحاب أميركا من سورية هو خطوة توحي بضعف أميركي وغياب الرغبة في الوقوف في وجه إيران، وبالتخلي عن الحلفاء (السوريين الإكراد، وإسرائيل)، وتقويض ثقة قوى المنطقة التي تريد الانضمام إلى واشنطن في مواجهة طهران. ويقوض الانسحاب الأميركي من سورية منطق المرابطة الأميركية في العراق، حيث الالتزام الطويل الأمد لا غنى عنه في بناء قدرات قوات الأمن العراقية لجبه داعش وهزيمته إذا ما عاد.
الحياة