جورج سمعان – الحياة
معركة إدلب فتحت شهية جميع المنخرطين في أزمة سورية. قبل أن تندلع ميدانياً، انفتح الصراع المؤجل على «المحاصصة». مرحلة جديدة في مسار الأزمة، فالجميع يتأهبون لرسم الحدود النهائية لنفوذهم وتعريف مصالحهم بوضوح. يمكن أي طرف أن يعرقل مساعي الطرف الآخر أو محاولات المعترضين على دوره ومنطقة نفوذه. لذلك، تبلورت في الأيام الأخيرة مواقف سياسية وعسكرية، من هنا وهناك، بدت قبل ذلك ضبابية وغامضة أو اتسمت أحياناً بالتناقض، خصوصاً الموقف الأميركي.
المرحلة مصيرية لجميع المعنيين، خصوصاً أن الساحة العراقية تتبلور فيها مواجهة سياسية ليست بعيدة مما يجري في سورية والإقليم عموماً. وليست بعيدة، خصوصاً، من «المعركة» بين الولايات المتحدة وإيران. إدارة الرئيس دونالد ترامب تريد تثبيت «حصتيها» السورية والعراقية. ولا ترغب في أن يشاركها أحد فيهما. بل تبدو أنها ترغب في أن تشارك هي الآخرين «حصصهم». وتخوض صراعاً مريراً في بغداد لترجيح كفة حلفائها لتضمن لهم الإمساك بكرسي الحكومة، وتضمن لنفسها تالياً أرجحية في القرار السياسي العراقي. وقد أكدت أن قواتها باقية في بلاد الرافدين… حتى وإن استعجلت الجمهورية الإسلامية زرع صواريخها الباليستية. وحركت «حشدها الشعبي» لتوفير إقامة مريحة لـ «حرسها» في عاصمة الرشيد. وحتى إن التقى رؤساء الأركان في كل من العراق وروسيا وسورية وإيران في غرفة عملياتهم المشتركة في هذه الأيام بالتحديد تحت شعار مواصلة «التنسيق بمواجهة داعش» وبقاياه.
إدارة الرئيس ترامب، كشركائها الأوروبيين، حذرت من تداعيات عملية عسكرية كبيرة في إدلب. وتوحي مواقفها الأخيرة بأنها ترغب في العودة لاعباً فاعلاً ومؤثراً في الأزمة السورية. واصلت إمداداتها العسكرية لحلفائها الكرد و «قوات سورية الديموقراطية» عموماً، من أجل حماية مناطقهم شرق البلاد وشمال شرقها، وحماية قواعدها أيضاً في هذه المناطق. علماً أنها لم تعترض على محادثاتهم مع أركان النظام في دمشق من أجل توفير الخدمات للسكان الخاضعين لإدارتهم المحلية فقط لا غير. وأطلقت مواقف سياسية كانت غيبتها لأكثر من سنتين. لعلها أدركت متأخرة أنها أخطأت في الدفع نحو إقامة «مناطق خفض التوتر»، خصوصاً في جنوب سورية. أخطأت في تكليف روسيا بناء هذه المناطق لترسيخ وقف النار تمهيداً لإطلاق عملية التسوية السياسية. لكن النتيجة جاءت بخلاف ما اشتهت. كان يفترض مبدئياً أن يدير هذه «المناطق» أهلها والفصائل المنتشرة فيها. وأن يشارك هؤلاء لاحقاً في المفاوضات على التسوية. لكن ما حصل هو أن موسكو استغلت هذا التوافق أو «التكليف» ومكنت، بمساعدة إيران وميليشياتها، قوات النظام السوري من السيطرة على هذه المناطق الواحدة تلو الأخرى. وهي تريد استكمال هذه السياسة في إدلب فلا يبقى لها منازع قريب أو بعيد.
جوهر المواقف السياسية التي واكبت فيها إدارة الرئيس ترامب الاستعدادات الروسية – السورية لفتح معركة إدلب، أن واشنطن تسعى إلى مشاركة موسكو توزيع «الحصص»، أو في الأقل تقليص حصتها. كأنها تريد طي صفحة تكليفها وإطلاق يدها في العمل على وقف الحرب في بلاد الشام. وتريد إعادة نقل العملية السياسية إلى أروقة الأمم المتحدة، إلى جنيف أو فيينا أو نيويورك. فلا تبقى في آستانة أو سوتشي. تريد العودة إلى البدايات، إلى قرارات المنظمة الدولية، وليس إلى قرارات الثلاثي الروسي – الإيراني – التركي. واستعادت لذلك شعارات قديمة عن وجوب قيام حكومة انتقالية ولكن من دون قيادة الرئيس بشار الأسد. وهكذا عادت تلتقي مجدداً مع رغبة الدول الأوروبية المعنية التي كانت تنادي بوجوب الرعاية الدولية للتسوية السياسية، فلا تستأثر بها موسكو لتكون على مقاسها وبما يخدم مصالحها وطموحاتها. لذلك، امتنعت هذه الدول ولا تزال ترفض المساهمة في أي مشروع لإعادة إعمار المدن والدساكر أو تأهيل البنى التحتية تمهيداً لإعادة اللاجئين، ما لم تتحقق التسوية السياسية والتغييرات المطلوبة في النظام. بل هي تأخذ على روسيا أنها ساهمت بدعمها العسكري للنظام في دمشق في تفاقم أزمة اللاجئين، في الداخل السوري وخارجه. وكيف لها أن تطمئن إلى نيات الكرملين ومساعيه لإعادة اللاجئين فيما آلته العسكرية تستعد لتهجير مئات الآلاف من منطقة إدلب مع قرع طبول الحرب!
لكن هذه المواقف المتأخرة لإدارة الرئيس ترامب قد لا تلقى صدى فاعلاً في خطط موسكو ومشروعها السوري. غياب الحضور العسكري الأميركي الفاعل والمباشر، والحديث عن انسحاب القوات من سورية لا يسمحان لواشنطن برفع سقف طموحاتها… إلا إذا كانت تعتمد على الذراع الإسرائيلية التي فرضت وتفرض شروطها في بلاد الشام على جميع اللاعبين هناك. ما يعني موسكو أكثر في معركة إدلب هو موقف تركيا. من هنا، تبدو تصفية آخر «مناطق خفض التوتر» الأصعب والأكثر تعقيداً. فلا يعقل أن ترضى أنقرة بانتزاع مناطق نفوذها في شمال سورية ببساطة وسهولة بعد كل ما قدمت وبذلت وتحملت. لذلك، لم تتأخر قواتها أخيراً في مد كل الفصائل الموالية بما تحتاج إليه من عتاد لمقاومة عودة قوات النظام إلى الشمال الحدودي الذي ينتشر فيه حوالى مئة ألف مقاتل من شتى التوجهات والولاءات. لذلك، حشدت روسيا هذه الآلة العسكرية الكبيرة شرق المتوسط للتهويل والترهيب، من جهة، لعلها تسهل قيام تفاهمات ومصالحات تنتهي بتسليم آمن لمنطقة إدلب إلى النظام. ومن جهة ثانية، لتحذير الولايات المتحدة من تكرار تجربة ضرب قواعد للنظام إذا لجأ إلى السلاح الكيماوي. وقد نجحت حتى الآن في ممارسة ضغط كبير على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان التي أدرجت «جبهة النصرة» على لائحة الإرهاب. وعلى رغم أن هذه الخطوة جاءت متأخرة، إلا أنها قد تساعد هذه الحكومة في دفع الجبهة إلى حل نفسها وإلحاق عناصرها بـ «الجبهة الوطنية للتحرير» التي تعدها أنقرة وغيرها من فصائل موالية لمواجهة الهجوم المرتقب.
لا جدال في أن حكومة الرئيس أردوغان تواجه امتحاناً صعباً وتحدياً مصيرياً. فهي من جهة تخوض معركة اقتصادية – سياسية غير متكافئة مع إدارة الرئيس ترامب، وتواجه تحدياً روسياً كبيراً في إدلب ومحيطها. وإذا كانت ترفض محاولات واشنطن تركيعها عبر العقوبات، فإنها تعلي الصوت رفضاً للهجوم المرتقب على مناطق انتشار قواتها وقوات حلفائها من فصائل المعارضة. فهي تدرك أن خسارتها هذه المناطق وتراجع قواتها إلى مواقعها خلف الحدود سيخلقان أزمة سياسية كبيرة في الداخل التركي تضاف إلى الأزمتين الاقتصادية والمالية المتفاقمتين. ولا يحتاج الرئيس أردوغان إلى مزيد من المتاعب والمشكلات. كما أنه لا يمكنه أن يسلم بحصول طهران على «حصتها» اتفاق تعاون عسكري مع دمشق وشرعية لعسكرها في بلاد الشام، فيما عليه هو أن يخلي الساحة! والسؤال هنا لا يتعلق بمدى قدرة أنقرة على خوض مواجهة عسكرية مع الحملة الروسية – السورية، بقدر ما يتعلق بمدى استعداد الرئيس بوتين لإغضاب تركيا والمغامرة بخسارة كل شبكة العلاقات التي بناها مع هذا البلد لإبعاده من حلف شمال الأطلسي، وانتزاعه من حضن الولايات المتحدة. فهل يقدم الكرملين على انتهاز فرصة تردي العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة لإخراج القوات التركية من سورية؟ أم إن ثمة حسابات أخرى تفرض عدم المجازفة وتحاشي جملة من التداعيات؟ لا جدال في أن الزعيم الروسي حريص على تمتين علاقته بتركيا حرصه على تمتين حضوره في سورية.
قد يكون التراجع عن الهجوم متعذراً بعد كل هذه الاستعدادات. ولكن، في ضوء الاعتبارات المذكورة، يمكن موسكو وأنقرة التوصل إلى صيغة وسط تحفظ لكل منهما ماء الوجه، وتضمن لتركيا «حصتها». فهل تتوافقان على اقتصار الحملة على مواقع ذات رمزية معينة، كمثل استعادة قوات النظام جسر الشغور التي تشكل نقطة استراتيجية تمسك بطرق الساحل غرب البلاد باتجاه حلب شمالاً وسهل الغاب جنوباً. وكانت المدينة سقطت في أيدي فصائل المعارضة ربيع 2015 بعد مواجهات شرسة مع قوات قادها العقيد سهيل الحسن الملقب بالنمر. ويمكن أيضاً القوات التركية التي تنشر نقاط مراقبة لوقف النار في المنطقة أن تضمن مع حلفائها من الفصائل أمن الطرق التي تربط العاصمة الشمالية للبلاد بباقي المناطق جنوباً وغرباً. وإذا لم تصغ «النصرة» لمطالب أنقرة يمكن هذه أن تشن الحملة بنفسها على الجبهة لتحصل على تركتها في التحكم في مناطق الشمال السوري… ولكن برضا روسيا أولاً وأخيراً، كما هي حال إيران التي قيدتها شروط التفاهم بين موسكو وتل أبيب.