قد لا يختلف اثنان يجيدان ألف باء السياسية، في أسباب إطالة أمد الثورة السورية، والملخصة في مصالح دولية وإقليمية لاقتسام الكعكة، استفاد معظمهم من تجارب سابقة، وبالأخص اسقاط النظام العراقي، وتبعاته في العقد المنصرم.
تركيا تُعَدُّ لاعباً أساسياً بلا منازع في الأحداث التي تشهدها سوريا منذ أربعة أعوام، ابتغت من وراء دورها تحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية في المرحلة المقبلة، إلى جانب مبتغاها الأهم وهو عدم تكرار تجربة إقليم كردستان العراق، على حدودها الجنوبية الممتدة لمئات الكيلومترات، كما اعلنها السيد أردوغان رئيس الجمهورية التركية منذ أيام، برفضه إقامة أي شكل من أشكال الحكم الكردي في شمال سوريا للصحفيين على متن الطائرة التي كانت تقله إلى انقرة قادماً من جولة افريقية.
السياسة التركية أبدت استغراب أغلب المراقبين إبَّان الثورة السورية، حيثُ كانت مناقضة لشعارها (صفر مشاكل مع الجيران)، وعلاقتها كانت قوية مع النظام السوري، والانقلاب السريع على علاقتها المشهودة خاصة مع رأس النظام، إلى العداوة واطلاق التهديد والوعيد.
تركيا اتخذت من الثورة السورية مطيّة لها، فوقفت إلى جانب الثورة وأبدت العِدا لنظام الأسد، كي تجبره لدعم ألدَّ أعدائِها، مع بدء النظام بتشكيل اللِّجان الشعبية في جميع المناطق حسب الحاجة (طائفية-عرقية)، متوقعة دعمها لحزب العمال الكُردستاني، وإنزاله من الجبال إلى سوريا، ودعمه بكُلِّ السُّبل، وبذلك تكون قد أنجزت جزء من عملية سلامها مع الحزب المذكور، بإيجاد أرض بديلة لهُ، هذا ومن جهةٍ أخرى يكون حزب العمال أداة ضغط على باقي أطراف الحركة الكردية التي تملك مشروعاً قومياً – الّلذين سيشكلون ضغطاً على تركيا مستقبلاً – كما أنّه يتمتع بنبرة سلطوية وحدوية ماركسية لا يقبل أي نوع من الشراكة، إلى جانب تبنّيه مشروعاً أُممياً مختصراً في قضايا إدارية مرتبطة بالخدمات، يُفرِغ نضال الشعب الكردي من مضمونه الحقيقي، وقد بدت السياسة التركية أكثر وضوحاً بغض النّظر عن انتقال مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى كوباني عبر اراضيها.
تركيا استضافت أهم أطياف المعارضة السورية منذ بدايات الثورة، وأخذتهم توابع لها، وبذلك تكون سيّدة قرارهم، كي تقي نفسها من أي دعم يمكن أنْ تقدِّمها للمعارضة الكردية الملازمة لخط الثورة، والتي تدعو إلى مشروع كردي حقيقي أو دون ذلك “التنسيقيات الشبابية”، كما أّنّها استطاعت منع تدفق أي دعم لهم من أقرب المقرّبين لهم (إقليم كردستان العراق)، حيث تربطها مع الإقليم علاقات اقتصادية كبيرة، استطاعت بذلك التهديد بها، وإفساح المجال لمغريات اقتصادية جديدة، ببيع نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي دون موافقة بغداد، (في موقف يثير الدهشة).
تركيا ابتغت من وراء كل ذلك إقواء شوكة فصيل الكردستاني في سوريا، على حساب القوى المعتدلة، كونه لا يملك مشروعاً كردياً ومصنّف على قائمة الإرهاب الأمريكية والأوربيّة، وبذلك أودعته زمام الأمور في المناطق الكردية، على حساب قوى هشّة لا حول ولا قوة لها، أُجبِرتْ للانضمام إلى صفوف المعارضة بورقة ضعيفة “إكراهاً لا رغبةً”.
كل ذلك كان الهدف منه منع القوى الدولية من دعم الكرد مستقبلاً، كما في كردستان العراق، وتجلّى ذلك واضحاً في هجمة القِوى الإرهابية (داعش) لمنطقتين كرديتين هما (شنكال وكوباني) لترسم بذلك مشهدين متناقضين، ففي المشهد الأوّل انهمرت العطايا من المال والسِّلاح على البيشمركة لضرب الإرهاب، أمّا في الثاني – أي في كوباني – لم تقدم القِوى الدولية أي شيء للقِوى الكردية المحاربة هناك ضد (داعش)، بل أتت بالبيشمركة عبر حدود ثلاث دول عندما احتاجت المعركة لأسلحة ثقيلة، كانت محرّمة على قِوى مصنّفة على قوائم الإرهاب.
تركيا استطاعت فرض أجنداتها إلى جانب دعم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كي تخلق العدو للكردستاني، في معارك صعبة مع تنظيم إرهابي تمرّس القتال في محاولة لاستنزافه، خاصة مع صلة التّنظيم بتركيا في علاقات جهرية تجلت بوضوح في عملية تسليم التّنظيم لطاقم القنصلية التركية في الموصل لتركيا دون المساس بهم، وبتسليم تركيا قيادات للتنظيم كانوا أسرى لدى الجيش الحر دون تسليمهم لبلدانهم الأوربيّة.
كل هذه المساحة فُتِحَتْ لتركيا على حساب تناقضات الموقف الأمريكي الّذي احتاج لوقتٍ طويل للغاية، لتحقيق مصالحه في مفاوضاته على مشروع إيران النووي، وفشل محادثات فيينا الأخيرة كانت ما تبتغيه تركيا لفرض أجنداتها على الأمريكان، للرّضوخ لرغبتها بإنشاء منطقة عازلة في شمالي سوريا تحت اشرافها، متجلّية في زيارة بايدن لتركيا بعد فشل فيينا مباشرة في محاولة لردم الهوة.
كل هذا العمل، نتج عنه تفرقة كردية وعدم انسجام في ظل انقسام واضح بين قوى المعارضة والنظام، دون استيعاب ما يُضّمر ويخطط لهم، مع الأخذ بالحسبان أنّ الأزمة والأحداث ستنتهي عاجلاً أمْ آجلاً، وستلتقي المصالح. فهل ستكون على حساب الكرد وبتدبير تركي لمرة جديدة كما حصل في عشرينيات القرن الماضي؟؟ أم ستدرك القِوى الكُردية اللّعبة وتُقلب الطاولة على رأس مُشرّعي وفقهاء الأناضول!!
الكُرد بحاجة إلى مراجعة حساباتهم من جديد، وبناء كيان كُردي موحّد تمثِّلهُ قِواهُ الشّرعية، ممتلكة قوى عسكرية موحّدة تعمل تحت إمرة الكيان الشرعي، والّتي تستطيع القِوى الدولية التّعامل معها ودعمها، إسوةً بإقليم كردستان العراق، خاصّةً مع الحاجة الماسّة لوجود جيوش تحارب الإرهاب، كما أكّدَ جون كيربي الكولونيل في البحرية الأمريكية، بقوله في مؤتمر صحفي: “لنْ يكون بمقدور الضربات الجوية وحدها إلحاق الهزيمة بالتنظيم المتطرّف، بلْ يجب أن تكون هناك جيوش معتدلة على الأرض لإنهاء التّنظيم بالتّنسيق مع الضربات الجوية”.
الفرصة مازالت مواتية أمام الكرد في سوريا، باستغلال محاربة الإرهاب وبناء كيان كردي في مناطقهم، لفرض أنفسهم كقوى يمكن الاعتماد عليها، وبذلك يحقّقون طموحات ورغبات أبناء جِلْدتهم، وإسقاط مشاريع أعدائهم التّاريخيّين، مثبتين أنّ العطار بإمكانه إصلاح ما أفسده الدّهر.
برزان شيخموس