التفاهم السعودي – التركي أساس أي توازن إقليمي

من المتعذر مقاربة التغيرات والاضطرابات السريعة المتلاحقة التي تشهدها دول منطقتنا ومجتمعاتها بتفسيرات وحيدة الاتجاه، ومنها ما يوحي بتحوّلات بنيويّة جذرية متمرّدة على القواعد المعهودة. فهذه التغيّرات حصيلة مشخّصة لتفاعل جملة من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، تتناسب فاعلية كل منها مع التحوّلات التي تشهدها المنطقة، وطبيعة الإستراتيجيات والتكتيكات المعتمدة على المستويين الإقليمي والدولي.

وما يهمنا هنا في المقام الأول هو العامل الإقليمي، الذي يبدو أنه الأكثر تأثيراً، أو الأكثر ترشيحاً للتأثير، في ظل غياب موقف دولي قوي واضح المعالم، على الأقل من الآن وإلى نهاية ولاية الرئيس أوباما، وفي أجواء تراجع لافت في فاعلية العامل الداخلي نتيجة غياب التنظيم، والإنهاك، وضبابية الرؤية، وفقدان القدرة على اتخاذ القرار المستقل.

فعلى المستوى الإقليمي، تنذر امتدادات وتداخلات جيوش الإيديولوجيا المذهبية على المستوى الجغرافي العابر للحدود، وتداعياتها المجتمعية، بحدوث تحوّلات جيو- سياسية، تتناسب أبعادها مع جهود ومشاريع اللاعبين الدوليين والإقليميين الفاعلين راهناً، وهم بصورة أساسية: الولايات المتحدة الأميركية وإيران وإسرائيل. أمّا القوى الإقليمية المهمة الأخرى، أي السعودية وتركيا ومصر، التي كان من المفروض أن تكون أدوارها أكثر حضوراً وتأثيراً، فتعاني من حالة ترقّب وارتباك نتيجة عوامل شتى، منها داخلية ومنها إقليمة ودولية.

ولعلنا لا نأتي بجديد، إذا قلنا إن التوجه المذهبي في المنطقة قد بدأ منذ سقوط شاه إيران، وتأسيس النظام الإسلامي، وهو النظام الذي لم يتخل يوماً عن عقيدة تصدير الثورة عبر المزاوجة بين المذهبي والسياسي، ومحاولات تجييش الشيعة وتنظيمهم في مختلف دول المنطقة، بل العمل على تشجيع التشيّع بأساليب مختلفة، وانطلاقاً من توجهات سياسية. وقد تم تغليف كل ذلك بشعارات كبرى مثل: مقاومة اسرائيل، ومعاداة الاستكبار العالمي، والاستعداد لتحرير القدس، وغير ذلك من الشعارات التي تتغلغل عادة في أعماق نفوس شعوب المنطقة العاطفية نتيجة تربيتها وظروفها، وبفعل غياب الفكر النقدي القادر على التمييز والاستنتاج.

وهكذا برز حزب الله في لبنان، وبدأت المراكز الثقافية الإيرانية بالعمل في العديد من الدول العربية بنشاط غير مسبوق، بخاصة في سورية التي كانت قد ارتبطت مع ايران بحلف غير معلن منذ الأيام الأولى للحرب العراقية – الإيرانية، وتعزّز هذا الحلف لاحقاً في مرحلة حرب الكويت. لكن المحطة الأهم بالنسبة للنظام الإيراني هي تلك التي تلت سقوط نظام صدام في العراق، إذ تحرّك مع النظام السوري للمصادرة على أي احتمال لولادة دولة وطنية عراقية تحترم خصوصيات وحقوق سائر مكوّناتها المذهبية والدينية والقومية، وتكون عامل استقرار وتوازن في المنطقة.

وكانت الورقة الطائفية الأداة المستخدمة في هذا المجال: فقد عمد تحالف النظامين المعنيين إلى دفع الأمور باتجاه الفوضى العارمة من خلال تفجير العلاقة بين الشيعة والسنة، وحتى تهديد الأقليات الدينية الأخرى، بخاصة المسيحيين. وقد اعتمد النظام الإيراني في ذلك على الميليشيات الشيعية المرتبطة به، أو القريبة منه، في حين انيطت بالنظام السوري مهمة التواصل مع الجماعات السنية المتشددة، المتمحورة حول القاعدة، أو المتفرعة عنها، على أن يستغل في هذا المجال علاقاته مع البعثيين العراقيين، والضباط الصداميين.

هكذا تم توزيع الأدوار ضمن مخطط مدروس بعناية فائقة، الأمر الذي أدى في ما بعد إلى سقوط العراق بصورة شبه كاملة في دائرة النفوذ الإيراني المباشر. وما ساهم في ذلك هو عدم فاعلية، إن لم نقل سلبية الدور العربي الذي كان من شأنه أن يحدث على الأقل توازناً، ولو في حدوده الدنيا.

ومع مجيء أوباما، وإعلانه الصريح بأنه سيسحب الجنود الأميركيين من العراق، ولن يرسلهم إلى الحرب ثانية، كانت الأوضاع مهيأة من كل النواحي لإيران ان تعزز نفوذها، بل وجودها، في العراق. أما اقليم كردستان فظل، على رغم ظروفه الصعبة، يحتفظ بشيء من التوازن في علاقاته الإقليمية سواء مع تركيا أم مع إيران، وكذلك مع السعودية.

ومع استيلاء داعش على الموصل، ومناطق شاسعة من الجغرافيا السنية العراقية، وقبل ذلك سيطرته على الرقة السورية، ومناطق واسعة في محافظات دير الزور والحسكة وحلب، بدأت الأمور تأخذ منحى جديداً، وأصبح العالم أمام لوحة سوّقها الحلف الإيراني، لتشويه واقع الصراع الحقيقي في المنطقة. وهي اللوحة ذاتها التي ما زالت تمثّل خلفية الموقف الأميركي الأوبامي تحديداً، ومحورها: ارهاب سني داعشي، مدعوم بداعشية مقنعة، إرهاب لا يخضع لأية ضوابط من جهة قسوة الأساليب، أو التحكّم. وإرهاب شيعي منضبط، يمكن التفاهم معه من خلال مفاتيحه المعروفة.

وهكذا باتت دعوات شعوب المنطقة في كل من سورية وليبيا واليمن ومصر المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة صيغة من الترف الفكري، وذلك في أجواء الصراعات الوجودية الدامية بين جيوش فعلية غير رسمية، موزعة بين معسكرين متباينين مذهبياً، متناقضين على مستوى المشاريع والمصالح، لدرجة أن الأمور تبدو وكأن كل طرف يترقب مجيء مهديّه المنتظر ليسحق المخلّص الدجّال الذي يقود الطرف الآخر.

لكن التمعّن في اللوحة جيداً يعزّز لدى المرء قناعة تامة بأن المستفيد الأول والأخير من كل ما يحصل في المنطقة، حتى على صعيد المشروع الداعشي، هو المحور الإيراني، بخاصة من ناحية إرباكه القوتين الإقليميتن اللتين تمتلكان رمزية خاصة في العالم السني: السعودية وتركيا. كما تسبّب أيضاً في إحداث شرخ كبير بين الكرد السنة والعرب السنة في كل من سورية والعراق، الأمر الذي ستستفيد منه إيران وأتباعها في العراق وسورية ولبنان. وبناء على ذلك، كانت أهمية أي تفاهم بين السعودية وتركيا راهناً ومستقبلاً، وذلك لإعادة التوازن إلى المعادلات المختلّة في الإقليم. ومن شأن مثل هذا التفاهم أن يقطع الطريق على التطرّف، أو المتاجرة به، وفي ذلك حماية للمنطقة من تداعيات كارثية تهدد كل شيء.

تركيا من موقعها العَلماني، وبحكومتها الإسلامية، وبفعل إمكانياتها الميدانية والمادية، ومحاذاتها لساحات المعارك، وتفاعلها المستمر مع المتغيرات الجارية في كل من العراق وسورية، تستطيع أن تفعل الكثير. لكن فعلها لن يكون مقبولاً وفاعلاً كما ينبغي من دون دعم سعودي، دعم يوفر لها الغطاء العربي والرمزية الإسلامية، الأمر الذي سيجنّبها الكثير من المشكلات على المستويين الإقليمي والداخلي، وحتى الدولي.

التفاهم التركي السعودي – بخاصة في ظل القيادة السعودية الجديدة وتفكيرها الواعد- أمر لا استغناء عنه، والتعاون بينهما لتجاوز العقدة المصرية من المسائل الحيوية الضرورية، كما أن العمل المشترك بينهما مهم إلى الحد الأقصى، على أن يعتمد استراتيجية شاملة متكاملة بأبعادها السياسية والعسكرية والتنموية والتربوية، استراتيجيةً ترتكز على مبدأ التعاون والتنسيق مع القوى الإقليمية الفرعية مثل الأردن وقطر والإمارات وإقليم كردستان العراق.

كل ذلك سيساهم في الحد من تصاعد وتيرة التشنّج المذهبي في المنطقة، وسيكون رسالة قوية لإيران مفادها: بأن سياسة التدخلات عبر قوى ومنظات متعددة الأسماء وحيدة المضمون لم تعد مجدية. وفي ذلك انقاذ للمنطقة ولإيران نفسها، وضمانة لحقوق الجميع من دون استثناء.

عبد الباسط سيدا

Comments (0)
Add Comment