في أبعاد التصعيد التركي ضد الكردستاني و«داعش»
بعد سنوات من عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني تعود تركيا إلى الفصل الدموي القديم الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من الجانبين فضلاً عن تدمير لمئات آلاف القرى والبلدات الكردية.
إطلاق تركيا العنان لغاراتها جاء في ظل متغيرات داخلية وإقليمية، تمثلت في الاتفاق الأميركي– التركي على وضع قاعدة أنجرليك التركية في خدمة التحالف الدولي في حربه ضد داعش في سورية والعراق، مقابل الإقرار الأميركي بإقامة تركيا منطقة أمنية عازلة على الحدود السورية، وهذا الاتفاق الملتبس لم يكن وليد اللحظة بقدر ما كان نتيجة مفاوضات طويلة مارست خلالها واشنطن المزيد من الضغط على أنقرة. وفي التوقيت أيضاً، ينبغي التوقّف عند الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى وتداعيات هذا الاتفاق على القضايا المتفجّرة في المنطقة ولا سيما الأزمة السورية حيث تحس تركيا بأن التقارب الأميركي– الإيراني الحاصل من بوابة النووي سيكون على حساب دورها الإقليمي وتحالفها التاريخي مع واشنطن.
الداوفع أو الأسباب التركية المعلنة لتصعيدها، هي محاربة خطر داعش والصعود الكردي والنظام السوري، فتركيا المتهمة بدعم داعش وجدت نفسها أمام انتقال خطر التنظيم إلى الداخل التركي، خصوصاً بعد سلسلة التفجيرات التي شهدتها المناطق الحدودية، والتي كان أهمها التفجير الذي وقع في مدينة سوروج وأودى بحياة العشرات من الضحايا المدنيين، فضلاً عن هجمات ضد جنود أتراك قام بها التنظيم للمرة الأولى. فيما على الصعيد الكردي باتت تركيا ترى نفسها بعد سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض أمام إقليم كردي على حدودها الجنوبية، يطمح إلى ربط المناطق الكردية بمنطقة عفرين، ليصبح إقليماً مكتملاً جغرافياً، يمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية إلى البحر المتوسط، ولعل ما زاد المخاوف التركية إحساس تركيا بأن من يقف وراء هذا الصعود الكردي في سورية هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني الذي يتّخذ من جبال قنديل مقراً ومن هناك يدير التنظيمات التابعة له في سورية والعراق وتركيا وإيران وأوروبا. وحقيقة، فإن تركيا باتت تخشى من تحالف أميركي- كردي يتأسس على وقع الحرب ضد داعش، وهو تحالف ترى فيه تركيا تهديداً لها على المدى الاستراتيجي.
أبعد من خطر داعش والأكراد، وجدت تركيا نفسها بعد الاتفاق النووي الإيراني أمام احتمال تصاعد النفوذ الإيراني في ساحات الشرق الأوسط ولاسيما في سورية والعراق واليمن ولبنان، ومثل هذا النفوذ سيكون على حسابها ودورها الإقليمي بشكل أو آخر، ولعل المفارقة هنا، هي أن تركيا الحليفة التاريخية للغرب والعضو في الحلف الأطلسي بدأت ترى في التقارب الأميركي – الإيراني خروج لتركيا من سياق المنظومة الأمنية للحلف الأطلسي لصالح تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة. وعليه ربما وجدت تركيا في اتفاقها مع أميركا مدخلاً لتحقيق مجموعة من الأهداف:
1- أهمية استعادة التحالف للعلاقات التركية– الأميركية، وما لهذا للتحالف من أهمية استراتيجية لتركيا تجاه قضايا الشرق الأوسط ولاسيما الأزمة السورية.
2– الحد من خطر داعش والأكراد على الداخل التركي والأمن القومي التركي، وإذا كانت تركيا ترى في داعش خطراً موقتاً، فإنها ترى في الخطر الكردي خطراً استراتيجياً ومصيرياً، نظراً إلى أن الأمر يتعلق بمستقبل الدولة التركية وبنيتها وجغرافيتها، حيث شكل الطموح الكردي إلى إقامة دولة كردية مستقلة هاجساً لتركيا على الدوام.
3- أن تركيا بحصولها على إقرار أميركي بإقامة منطقة أمنية عازلة ترى أنها حققت أحد أهم شروطها في الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب ضد داعش، ولعل الأهم لها هنا، هو أن تشكّل هذه المنطقة منطلقاً للمعارضة السورية المسلّحة في معركتها لإسقاط النظام السوري الذي يشكل هدفاً استراتيجياً لتركيا.
4- ثمة من يرى أن مجمل ما سبق ليس ببعيد من العامل الداخلي التركي المتمثل بالتوجه إلى الانتخابات المبكرة، إذ يرى هؤلاء أن من شأن هذا التصعيد الأمني والعسكري شد عصب الناخب التركي في الداخل نحو حزب العدالة والتنمية الذي يطمح إلى استعادة ما فقده من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتطلع إلى نيل أغلبية برلمانية في الانتخابات المبكرة تمكّنه من تشكيل الحكومة وحده بعد أن تبيّنت صعوبة تشكيل حكومة ائتلافية بسبب تناقض أجندته مع أجندة أحزاب المعارضة.
في الواقع، وبغض النظر عن هذه الأسباب والدوافع، فإن الحرب التي أعلنتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني وداعش لن تكون من دون تداعيات، ولعل أولى هذه التداعيات انتهاء عملية السلام الهشّة مع الأكراد وخطر العودة إلى فصل دموي جديد بين الجانبين لن يكون الداخل التركي بمنأى منه، خاصة في ظل الصعود الكردي، ولعل الحكومة التركية ترى أنها مستعدة لتحمل مرحلة من عدم الاستقرار والتبعات الأمنية والاقتصادية والسياسية لصالح استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على منع إقامة تحالف أميركي – كردي بهدف الإبقاء على حزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له في دائرة الإرهاب، والأهم منع تحول حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، الذي حقق نـصراً كبـيراً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لاعباً في الساحة الداخلية التركية له القدرة على رسم الأبعاد الدستورية والسياسية لتركيا وبنيان نظامها السياسي.
لكن الثابت هنا، هو أن الحسابات التُّركية قد لا تكون دقيقة على صعيد نتائج العملية العسكرية سياسياً، فعلى الأقل لا أحد يستطيع أن يضمن ألاّ تزيد الغارات التركية على مواقع «الكردستاني» من التفاف الأكراد في عموم المنطقة حوله، بما يساهم في زيادة شعبيته بوصفه يحارب نظاماً يرفض الاعتراف بالحقوق القومية الكردية.
الحياة