سياسة الحصار في سورية: مكاسب اقتصادية وسياسية وعسكرية
على الرغم من اعتماد النظام السوري الآلة العسكرية في مواجهة الاحتجاجات التي انطلقت عام 2011، للمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة، وضربه -لاحقًا- حواضن المعارضة المسلحة كلها بالحديد والنار، إلا أنه انتهج، في الوقت نفسه، سياسة الحصار أيضًا، كوسيلة في تطويع إرادة الشعب أمام إرادته.
اتبع النظام سياسة الحصار في مناطق عديدة، فقطع عن المدنيين سُبل الطعام والشراب، ومنع عنهم المحروقات والكهرباء، فلقي العشرات من السوريين حتفهم جوعًا وعطشًا وبردًا، وكل ذلك جهارًا نهارًا، وأمام أعين المجتمع الدولي والأمم المتحدة وكل الدول التي أطلقت على نفسها اسم “أصدقاء الشعب السوري”.
أبرز المدن التي فرض عليها النظام الحصار هي داريا، في ريف دمشق، التي استمر الحصار المطبق عليها نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، حمص القديمة، بلدتي مضايا والزبداني في ريف دمشق، حي الوعر في حمص، القصير في ريف حمص، معضمية الشام في ريف دمشق، بلدة بقين في ريف دمشق، دوما في ريف دمشق.
بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة في حزيران/ يونيو من العام الجاري، فإن نحو 5 مليون سوري بحاجة ماسة للمساعدة العاجلة، يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها، وقال حينها منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة، ستيفن أوبراين، في كلمة أمام مجلس الأمن يوم الخميس 23 حزيران/ يونيو: إن هناك “زيادة 900 ألف شخص إلى التقديرات السابقة التي بلغت 4.1 مليون شخص في نيسان/ أبريل”.
لماذا سياسة الحصار
يقول عضو الهيئة السياسية في الائتلاف، حواس خليل عكيد، في حديثه مع (جيرون): “لقد استخدم الأسد سياسة الحصار؛ لأنه يرى في سلاح التجويع الفائدة المضاعفة، فهو -أولًا- يحاول أن يكسر إرادة الناس، وهي الغاية المثلى عنده، لأن كسر الإرادة يؤدي إلى فقدان المرء كل أسباب المقاومة والاستمرار؛ حيث يكون الوهن حليف كل فردٍ تحطمت إرادته، وثانيًا هو يحاول نقل المعركة النفسية إلى ديار وساحة المقاتلين أنفسهم، إذ تبدأ الشكوك وتنعدم الثقة باعتبار أن الجشع والطمع والاستئثار سلوكيات بشرية عامة وهي غير بعيدة عن ثقافة المجتمع السوري، لذا فهو من خلال الحصار يؤلب الناس على بعضهم بعضًا، فمن جهة يؤلب المدنيين على المقاتلين، ومن جهة أخرى يؤلب المقاتلين على بعضهم من خلال الاستقتال على تأمين الحاجيات اليومية للإنسان”.
وأضاف: “الطاغية له حدود دولية ويعرف القوانين والدساتير، وأصلًا لديه معرفة كاملة عن التخوم المسموح له فيها ارتكاب كل جرائمه التي لا تشكل خطرًا على المجتمع الدولي، والدليل أنه ومنذ بداية الثورة يتذرع بالإرهابيين ليغطي جرائمه، فهو عمليًا ووفق القوانين الدولية يحاول أن يظهر للمجتمع الدولي بأنه يحارب الإرهاب العالمي وليس بقاتلٍ لشعبه”.
إلا أن العميد الركن المنشق، أحمد رحال، يرى أن النظام السوري استخدم سياسة الحصار لأسباب أخرى أيضًا، وقال لـ (جيرون): “لقد لجأ الأسد إلى سياسة الحصار نتيجة ضعف القدرة البشرية في صفوفه العسكرية، فعمد إلى فرض الحصار على المناطق الحيوية التي يعجز عن دخولها بالجيش والآليات العسكرية”.
وتابع: “لقد استفاد النظام من سياسة الحصار ثلاث نقاط، أولًا استفاد سياسيًّا منها؛ حيث أبقى بين يديه وسيلة للتواصل مع المجتمع الدولي، وبذلك يستمر في كسر الحصار السياسي المفروض عليه، ثانيًا استفاد منها عسكريًّا؛ فهو استنزف بقوى قليلة مناطق كبيرة يصعب عليه دخولها نتيجة ضعف إمكانياته، كما استفاد من الحصار اقتصاديًّا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن سعر كيلو الرز وصل إلى 14 ألف ليرة سورية. عمليًّا حواجز النظام تحولت لسوبر ماركت، ورأينا أن سيارة في مدينة الزبداني عرضت للبيع مقابل 10 كيلو رز”.
وأوضح رحال المكسب الاقتصادي للحصار قائلًا: في الغوطة الشرقية “وصل كيلو الرز إلى 15 ألف ليرة سورية، وعندما قالت روسيا إنها من الممكن أن ترعى عملية مصالحة في الغوطة الشرقية، هبط سعر كيلو الرز نفسه إلى 3 آلاف ليرة سورية، هذا دليل على أن الأسد يتلاعب بالمواد الغذائية ليكسب أكثر”.
ومما لا شك فيه أيضًا أن النظام أبقى بينه وبين المعارضة السورية المسلحة -عبر سياسة الحصار- بابًا للحوار، حيث أن الجوع الذي يتعرض له المدنيون داخل جغرافيا الحصار يدفع بالمعارضة المسلحة إلى التفاوض مع النظام بطريقة أو بأخرى؛ كي يسمح بدخول الطعام والدواء إلى المدن.
دستور سوري يحمي الأسد ومجتمع دولي نائم
وجه المدنيون المحاصرون آلاف النداءات إلى المجتمع الدولي؛ طلبًا للإغاثة وفك الحصار، وأرسلوا إلى العالم أجمع صورًا لأطفالهم، وقد التصق جلدهم بعظمهم، في مشهد من القساوة بمكان، يجعل المرء يغمض عينيه هربًا من هوله. إلا أن المجتمع الدولي بقي نائمًا إلا ما ندر من الصحو، والذي بفعله دخلت مساعدات قليلة إلى المدن المحاصرة لا ترقى إلى أن تسمى إغاثة إنسانية، كما أن النظام كان قد فصل قانون البلاد على مقاسه، فلا محاسبة تطوله بدستوره ولا أحد يناقش انتهاكاته.
حول ذلك قال خليل عكيد: إن نظام الأسد أحاط نفسه بسياج حماية، يبقيه بعيدًا عن المساءلة، وأوضح أن هذا السياج “أسسه حافظ الأسد عند استلامه للسلطة عام 1971، حيث أوجد الأسد الأب أرضية قانونية متكاملة لجعل سورية أرضاً للإفلات من العقاب لمختلف المجرمين ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سورية والعالم، وعززها ابنه بشار بعدد آخر من القوانين لتأكيد ونشر حماية أوسع للمجرمين، والأساس الذي انطلق منه نظام الأسد كان الدستور الصادر عام 1972 الذي فصّله حافظ الأسد على قياسه تمامًا كديكتاتور، فإضافة إلى السلطات الواسعة غير المقيدة التي منحها لنفسه كرئيس، وترأس السلطة التنفيذية والقضائية وحق إصدار التشريعات، فقد منح الحماية والحصانة لنفسه من الملاحقة والعقاب، بموجب المادة 91 من الدستور، حيث تنص هذه المادة على أنه لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولًا عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهماته إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بناء على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، وقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية ولا تجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا”.
وأشار إلى أنه “عمليًا لا يوجد في قانون العقوبات أي نص على جرم الخيانة العظمى، فقد جاءت المادة 29 من الدستور، لتقول (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني)، مما يعني فعليًّا عدم معاقبة رئيس الجمهورية على أي جرم يرتكبه مهما كان هذا الجرم.
وفي الدستور الصادر عام 2012 الذي أصدره بشار الأسد أكد على هذه الحماية بالمواد، وبما أن سورية لم توقّع على انضمامها للمحكمة الجنائية الدولية، ذلك جعلها بمنأى عن ملاحقة المجتمع الدولي للجرائم المرتكبة، وبهذا يمكننا أن نفهم مدى الاطمئنان الذي يشعر به بشار الأسد عند ارتكابه كل هذه الجرائم والمجازر”.
من جهته رأى رحال أنه “منذ بداية الثورة السورية اتخذ النظام قرارًا بتدمير الجيش السوري الحر -الذي كان سيطيح به في أواخر 2012- وخلق فصائل وتنظيمات ورايات سوداء من أجل إعطاء مبرر للمجتمع الدولي -الذي لا يريد إسقاط الأسد أصلًا- للقول إنه في حال سقوط الأسد فسيحكم البلاد المتشددين والإرهابيين، وبالتالي كل ما يحصل في سورية عملية استنزاف تستفيد منها القوى الدولية، فإيران تعتبر الحدث السوري استنزاف للسعودية ومواردها، روسيا اعتبرتها وسيلة لإعادة نفوذ الامبراطورية السوفياتية، أميركا عدّتها استنزافًا لكل القوى المعادية لها ولإسرائيل”.
ويعتقد أنه وسط كل هذه المصالح المشتركة، لا يوجد أحد من المجتمع الدولي سيهتم بمدينة محاصرة أو مدنيين جياع، وقال “المناطق المحاصرة صدر بحقها خمسة قرارات دولية كان آخرها قرار 2254، ولم يلتزم بها نظام الأسد، كان يمكن أن تدفع المجتمع الدولي لمحاسبته. ولو كانت القوى العظمى تريد مساعدة الشعب السوري لكانت بتصريح واحد -من أميركا تحديدًا- فكت الحصار عن المدن”.
اتفاقيات ما بعد الحصار وإخلاء المدن
قادت سياسة الحصار التي انتهجها نظام الأسد إلى إخلاء مدن وأحياء من المعارضة السورية والمدنيين، فمن القصير في ريف حمص، إلى حمص القديمة، فحي الوعر، فداريا أخيرًا، ما جعل نظام الأسد يعدها نصرًا له حققه بأيدي باردة ودون عناء عسكري، في الوقت الذي يرى فيه مراقبون أن ما حصل في تلك المدن من تهجير هو منهجية يتبعها النظام وحلفاؤه لترسيخ التقسيم الإنساني في سورية، والذي يقود بدوره إلى تقسيم جغرافي في البلاد.
ويرى رحال أن الأسد لم ينتصر، الذي انتصر هو “سيناريو التقسيم”، موضحًا أن ما حصل في داريا من إخلاء للسكان مردّه إلى أنها “تطل على طريق دمشق بيروت، والذي تتوجه من خلاله كل شحنات الأسلحة والامدادات التي تأتي من إيران عبر مطار دمشق الدولي، كما أنها تبعد 2 كيلو متر عن مطار المزة و6 كيلو متر عن قصر بشار الأسد، وأيضًا تقع ضمن مشروع الأبراج الإيرانية في المنطقة. إذا عملية التغيير الديمغرافي هي التي انتصرت حاليًّا، أما الثورة السورية فلم تخسر”.
واعتبر رحال أنه “عار على الأمم المتحدة أن يتهجر السوريون من مدنهم ضمن هذا المخطط وهي لا تحرك ساكنًا، ما يحصل في سورية هي لعبة دولية الغاية منها إطالة أمد الأزمة والقتل في سورية، يعني أود أن أسأل الأمم المتحدة: كم هي الدماء المطلوبة لإزاحة نظام الأسد؟”
خليل عكيد أكد هو الآخر أن “ما تعرض له الشعب السوري، خلال السنوات الماضية، لم يتعرض له أي شعب من شعوب المنطقة، والذي زاد من رداءة الوضع أن ليس الأسد وحده من كان مجرمًا بحقهم، إنما المجتمع الدولي برمته خذلهم، حيث تبين أن المجتمع الدولي عاجز وغير قادر على فرض إرادته إلا في حال انجرار الأسد إلى ما انجر إليه صدام حسين في اعتدائه على الجيران، والذي استوجب وقتها ردعه دوليًا. بينما طاغية سورية فهو أولًا استفاد من مطبات أقرانه من دكتاتوريي المنطقة، وثانيًا هذا الطاغية يشبه الرجل الشرقي الجبان الذي يعرف الأعراف الاجتماعية جيدًا فيضرب أولاده وزوجته لضمانه أن ما من أحد له الحق في منعه أو التدخل في شؤون بيته، طالما أنه لم يخرج عن الأعراف الاجتماعية المعمول بها”.
وأكد أن هذا الشعب الذي خسر ما يقارب ربع سكانه، ما بين مقتولٍ ومعتقل ومهجر، لن يستسلم بسهولة، طالما أن ما من عائلة سورية إلّا وتضررت من وراء جرائم وانتهاكات ودمار نظام الأسد، بل غدا لكل مواطن سوري ثأر عند هذا النظام الجائر.
جيرون