دوافع التدخل التركي في سورية واحتمالات توسعه
بعد ترددٍ طويل، قرّرت تركيا الدخول مباشرةً في أتون الصراع الدائر في سورية، فأرسلت، صباح يوم 24 أغسطس/ آب 2016، دبابات وقوات خاصة مدعومة بغطاء جوي، لمساندة هجوم المعارضة السورية على مدينة جرابلس الحدودية. وبمجرد استعادة المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية، وجهت تركيا إنذارًا أعطت فيه قوات سورية الديموقراطية التي تمثّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري مهلة ثلاثة أيام لسحب قواتها إلى شرق نهر الفرات، بعد أن تمكّنت بدورها، وبغطاء جوي لقوات التحالف الدولي، من استعادة مدينة منبج، ذات الأهمية الإستراتيجية، من تنظيم الدولة. فما الذي حدا بتركيا إلى التخلي عن تردّدها الطويل واتخاذ قرار التدخل المباشر في سورية، في هذه المرحلة تحديدًا؟ ولماذا انتظرت كل هذا الوقت للقيام بذلك؟
ساهمت جملة من العوامل في دفع تركيا إلى التدخل مباشرةً في الصراع السوري، بعضها مرتبط بالوضع الداخلي التركي السياسي والأمني، وبعضها الآخر مرتبط بالوضعين، الإقليمي والدولي، وتغير علاقة تركيا بالقوى المؤثرة في الموضوع السوري.
السيطرة على الجيش
اتسمت السياسة التركية تجاه سورية، منذ بداية الأزمة في مارس/آذار 2011، بالتردّد وغياب الحزم. ويتضح اليوم بجلاء أنّ هذا التردد كان مرتبطاً، إلى حد كبير، بموقف المؤسسة العسكرية والعلاقة معها. وتلقي مشاركة قادة الجيشين، الثاني والثالث، في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة “العدالة والتنمية” في منتصف يوليو/ تموز الماضي، وهما المسؤولان عن حماية الحدود الجنوبية والشرقية مع كل من سورية والعراق وحتى إيران، بعض الضوء على خلفيات إحجام الحكومة التركية عن التدخل عسكريًا في سورية. كما بات واضحًا أنّ الجيش كان يقاوم، خلال الفترة الماضية، كل طلبات الحكومة بالتدخل في الصراع السوري، بذريعة أنه لا يستطيع فعل ذلك، من دون دعم أميركي أو غطاء من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو أمر غدا فعلًا غير ممكن، بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، في سبتمبر/ أيلول 2015.
كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة، وردات الأفعال الشعبية والسياسية على الدماء التي سفكت خلالها، فرصة استغلها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لتطهير الجيش وإحكام سيطرته عليه. وتمثّل العملية العسكرية الأخيرة في سورية دليلًا مهمًا على أنّ الحكومة التركية المنتخبة باتت في موقع يمكّنها من قيادة الجيش، وإخضاعه لتوجهاتها وسياساتها.
تنامي التهديدات الأمنية القادمة من سورية
استثمرت حكومة “العدالة والتنمية” في تركيا حال الاستياء الشعبي من التهديدات الأمنية التي أخذ يمثّلها، بصفة متزايدة، كل من تنظيم الدولة (داعش) وحزب العمال الكردستاني (PKK)، للقيام بعملية عسكرية تؤدي إلى وقف حملة التفجيرات التي يتعرّض لها الداخل التركي انطلاقًا من الأراضي السورية. وقد جاءت العملية العسكرية الأخيرة ردًا من الحكومة التركية على محاولات استضعافها، وتبديدًا لكل انطباعٍ بأنها مشغولةٌ بمعالجة تداعيات الانقلاب الفاشل، وأنها غير قادرة حاليًا على الرد. كما اكتسب التدخل التركي غطاءً من الشرعية، بصفته يمثل حالة دفاع عن النفس، في مواجهة تهديدات “داعش” وحزب العمال الكردستاني.
ضعف الموقف الأميركي
أدى غياب الحزم في موقف إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من المحاولة الانقلابية الفاشلة، إلى إضعاف موقفها في مواجهة المطالب التركية، والتي كان في مقدمتها تسليم الداعية فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية. وذهبت الحكومة التركية إلى حد التهديد بمراجعة تحالفها الأمني والعسكري مع واشنطن، إذا لم تسلّم غولن. وبما أنّ إدارة الرئيس أوباما لا تملك تسليم غولن، من دون قرار من القضاء الأميركي، وجدت واشنطن التي لا تريد خسارة الدعم التركي الحيوي في مواجهة تنظيم الدولة، أن تطلق يد تركيا في مناطق غرب الفرات، في مواجهة كل من تنظيم الدولة والأكراد. وكان ملفتًا أنّ العملية العسكرية التركية بدأت صباح اليوم الذي وصل فيه نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تركيا، إذ دعا من هناك قوات حماية الشعب الكردية إلى الانسحاب إلى شرق الفرات، تحت طائلة فقدان الدعم الأميركي الذي تلقته غرب النهر لإخراج تنظيم الدولة من مدينة منبج. وبذلك كان لرفع الفيتو الأميركي عن التدخل التركي في سورية دور مهم في دفع تركيا إلى العمل ضد كل من تنظيم الدولة وقوات الحماية الكردية، مع أنّ واشنطن ما زالت تتحفظ عن إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، كما تطالب أنقرة.
وكانت واشنطن تحدّت تركيا ومصالحها في سورية، بإصرارها على دعم الأكراد، واعتمادهم وكلاء محليين في محاربة تنظيم الدولة، بدلاً من فصائل المعارضة السورية التي رشحتها تركيا للقيام بهذه المهمة. وقد قدمت واشنطن كل أنواع الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية، بما فيها إسقاط الأسلحة لها من الجو، كما زار جنرالات أميركيون، بمن فيهم الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القوات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، الأكراد في شمال شرق سورية، ما أعطاهم جرعة كبيرة من الثقة والشعور بأهمية الدور المناط بهم، وهو أمر أثار حفيظة الأتراك.
إضافة إلى ذلك، بدت الولايات المتحدة مرتبكةً من تطور العلاقة الروسية الإيرانية، بعد استخدام سلاح الجو الروسي قاعدة همدان العسكرية في إيران. وهي لا تبدو في وضعٍ يسمح لها بالاستغناء عن حلفاء في المنطقة، وذلك بعد أن بدأت تدرك احتمال خسارة الرهان على إيران الذي ساهم في تحديد سياسة أوباما في المنطقة خلال السنوات الأخيرة.
التقارب مع الروس
وضع التدخل العسكري الروسي في سورية يوم 30 سبتمبر/ ايلول 2015 نهاية لإمكانية فرض تركيا المنطقة العازلة التي طالما سعت إلى إقناع واشنطن بها في شمال سورية، لكن إسقاط الطائرة الروسية التي دخلت المجال الجوي التركي يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 أغلق سماء سورية في وجه الطيران التركي فوق الأراضي السورية. وعلى الرغم من أنّ تركيا داومت على قصف قوات حماية الشعب الكردية بالمدفعية، لمنعها من التمدّد على طول الحدود الجنوبية، خصوصاً غرب النهر، انطلاقًا من عفرين باتجاه أعزاز والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية، فإنّ نتائج القصف كانت محدودةً في المجمل. إذ استمر الأكراد، في ظل دعم أميركي – روسي مشترك، من السيطرة على مزيد من الأراضي، سواء شرق الفرات أو غربه.
ومع توجه الرئيس التركي إلى إنهاء القطيعة مع روسيا، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، تمكّن من تحييد الموقف الروسي في الصراع مع الأكراد. وفور وصوله إلى سانت بطرسبورغ، استقبلت موسكو أردوغان بإغلاق مكتب التمثيل التابع لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) الذي تعدّه أنقرة حزبًا إرهابيًا. وكانت موسكو سمحت لهذا الحزب بفتح مكتب تمثيلي في موسكو، بعد أزمة إسقاط الطائرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ليواكب دعمها السياسي والعسكري لهذا الحزب في سورية، وحتى داخل تركيا نفسها. اتضح أنّ تعامل روسيا، وبقية الدول العظمى في حقيقة الأمر، مع القضية الكردية، أداتي غير مبدئي، وليس أفضل من تعاملها مع العرب.
الأكراد نقطة تلاقي مصالح تركية – إيرانية
بالتوازي مع إصلاح العلاقة مع روسيا، كانت تركيا اتجهت إلى إصلاح علاقاتها مع إيران، إذ تمثّل سورية نقطة خلافٍ جوهرية بين الطرفين. وكانت التصريحات الروسية والأميركية الأخيرة عن إمكانية تقسيم سورية، أو في الحد الأدنى إنشاء فيدرالية يتمتع فيها الأكراد بقدر كبير من الاستقلالية، قد أثارت قلق أنقرة وطهران، ودعت الطرفين إلى تكثيف مشاورتهما بشأن سورية، بهدف تقريب المواقف. وكانت إيران صعّدت من هجماتها على قواعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وغيره من الفصائل الكردية ذات التوجهات الاستقلالية المتركزة في شمال العراق، وذلك ردًا على تصاعد هجمات هذه الفصائل في الداخل الإيراني. ويفسر ذلك عدم صدور أي ردة فعل إيراني سلبي على التدخل العسكري التركي المباشر في شمال سورية، مع أنّ طهران اعتادت على إبداء انزعاجها من السياسات التركية في سورية، ولطالما سلّطت حلفاءها لمهاجمة تركيا على أي تدخل عسكري، سواء في سورية أو العراق، كما حصل في بعشيقة قرب الموصل، عندما أقامت تركيا معسكرًا لتدريب قوات البشمركة لمحاربة تنظيم الدولة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وعلى الرغم من أنّ خارجية النظام السوري أصدرت بيانًا صحافيًا تندّد فيه بالتدخل العسكري التركي في شمال سورية، بصفته “اعتداء على السيادة السورية”، فإنّ النظام السوري نفسه قصف، خلال الأيام التي سبقت التدخل التركي في سورية، مواقع وحدات حماية الشعب الكردية في مدينة الحسكة، بصفتها “منظمة إرهابيةً تابعة لحزب العمال الكردستاني”، بعد أن كانت هذه الوحدات تصنف في خانة حلفاء النظام.
استباق الاتفاق الروسي – الأميركي
مثّل التدخل العسكري التركي محاولةً من أنقرة لضمان استمرارها جزءًا من الترتيبات الأمنية والسياسية التي يعكف الروس والأميركيون على صوغها حول سورية. وكان وزيرا الخارجية الأميركية والروسية اجتمعا، ساعات طويلة في جنيف يوم 26 أغسطس/ آب، لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقٍ بشأن سورية، يتضمن شقين: الأول أمني – عسكري، يهدف إلى تنسيق جهود الطرفين الروسي والأميركي، لمواجهة التنظيمات المتطرفة في سورية (داعش والنصرة، أو فتح الشام)؛ والثاني سياسي، يهدف إلى إحياء المفاوضات لإنهاء الصراع في سورية بين النظام والمعارضة.
أرادت تركيا، بتدخلها العسكري في هذا التوقيت بالذات، أن تكون جزءًا من الحرب على تنظيم الدولة، وفاعلًا أساسيًا في أي حل سياسي للأزمة السورية، بصفتها حاضنة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري، من جهة، ومتضرّرة فعلية من استمرار حالة الصراع والفوضى التي تعيشها سورية منذ أكثر من خمس سنوات، من جهة أخرى.
خاتمة
تبدو العملية العسكرية التركية حتى الآن محدودة، وينحصر هدفها الرئيس في إبعاد تنظيم الدولة عن الحدود التركية، ومنع وحدات حماية الشعب الكردية من ملء الفراغ الذي يخلفه انحسار التنظيم، ومن ثم السيطرة على الشريط الحدودي مع سورية، خصوصاً في مناطق غرب الفرات. كما تمثّل اختبارًا لقدرة الحكومة التركية على قيادة المؤسسة العسكرية، وإخضاعها للسلطة المدنية، وتحقيق حالةٍ من التوازن بين الدعم الأميركي المشروط، وغض الطرف الروسي المقصود، وتوافق المصالح مع إيران للحد من تطلعات الأكراد الاستقلالية. في الوقت نفسه، يمثّل هذا التدخل فرصةً للمعارضة السورية لإثبات جدارتها في مواجهة تنظيم الدولة، ومن خلاله إعادة فرض نفسها طرفاً لا يمكن تجاوزه في أي تسويةٍ سياسيةٍ للمسألة السورية.
المصدر: العربي الجديد