تركيا تصطاد في «تناقضات» العراق لملء أي فراغ يخلّفه «داعش»
أكثر من شهر انقضى على دخول قوات تركيّة الأراضي العراقية، قرب الموصل، وأزيح الغطاء عن حقيقة الخلافات بين البلدين أكثر من أي وقت مضى. ففي الظاهر بدت أنها أزمة سيادة، فيما ثمة جهود لترتيب وضع إقليمي جديد في مرحلة عراق ما بعد «داعش».
بعد مدٍ وجزر، ومطالبات وتحذيرات من استمرار التدخل، استقرت القوات التركية، التي قالت إنها تنسحب جزئياً من مواقعها شمال العراق، في مواقع جديدة على قمة جبل بعشيقه، وأسست قواعد هناك، وفي الأسبوعين الأخيرين قصفت مدفعيتها مواقع لتنظيم داخل الموصل. وكانت قبل ذلك تكثف من حملتها العسكرية ضد قوات حزب العمال الكردستاني، وتشدد من قبضتها القامعة لأكراد جنوب تركيا.
لم يدخل الأتراك «بعشيقه»، وهي بلدة زراعية تقع في سهل نينوى تبعد ١٢ كيلومتراً من مدينة الموصل، للمرة الأولى، فقط، مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لقد كان هناك ضباط وجنود أتراك في المعسكر الذي يتدرب فيه مقاتلون من العرب السُنّة تحت عنوان ما يعرف بـ «الحشد الوطني».
وفي ليلة ٣-٤ كانون الأول، أرسل الجيش التركي مئات عدة على الأقل من جنوده لـ «تقديم خدمات تدريب» في بعشيقه، وكانت الدول الأعضاء في التحالف الدولي الذي يقاتل داعش «على علم بهذا التحرك» وفق تصريحات نسبتها وكالة «رويترز» لمصدر تركي.
وفي وقت لاحق، دخل المزيد من الجنود الأتراك الأراضي العراقية، حتى أظهرت إحصاءات نشرتها وسائل إعلام عراقية إن العدد فاق الـ ١٣٠٠ جندي تركي.
تصاعدت في بغداد لهجة حامية على السيادة. تسابق مسؤولون حكوميون وسياسيون وناشطون للتنديد بالخرق التركي. وحدد حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، مهلة ٤٨ ساعة للانسحاب، وذكّر الأتراك حين انقضت منها ٢٤ ساعة، وقال: «لا اتفاق بيننا على دخول القوات»، على رغم أن أسامة النجيفي، نائب رئيس الجمهورية، صرح بخلاف ذلك، اذ قال: «الحكومة العراقية طلبت قبل أكثر من عام مساعدة تركيا». وكان يشير بذلك إلى عهد حكومة نوري المالكي.
ومع ذلك، قدم العبادي وجهة نظر حكومته رداً على ما وصفه «تبريرات تركيا»، وقال: «إن الأتراك زعموا علم وزير الدفاع، واتصل وزير الدفاع بالاتراك فتراجعوا وبعدها قالوا ان محافظ نينوى السابق هو من طلب، ونحن نسأل بأي حق يطلب محافظ سابق هذا الطلب».
قبل أكثر من سنة، كان رجب طيب أردوغان، في زيارة رسمية للعاصمة بغداد، وقال للمالكي إن بلاده وقعت اتفاقاً استراتيجياً مع بغداد، وأن لجنة برئاسته وأردوغان تتابع تنفيذ الاتفاق.
حين انتهت مهلة العبادي، قدم العراق شكوى لدى مجلس الأمن الدولي، وحاول الأميركيون تهدئة الموقف وتوسطوا لتدبير لقاء بين وزيري الخارجية العراقي والتركي في نيويورك، لكن إبراهيم الجعفري رفض ذلك.
في وقت لاحق، قالت تركيا إنها سحبت جزءاً من قواتها، وبعد ذلك سحبت «المزيد» كما تقول خارجيتها. لكن القوات التي انسحبت من معسكر بعشيقه تمركزت في مناطق أخرى داخل أراضي إقليم كردستان. ففي ١٦ كانون الثاني (يناير)، قالت مصادر عسكرية إن الآليات العسكرية التركية التي سُحبت من بعشيقه أعيد نشرها في بلدة «بامرني»، وهي بلدة تضم مطاراً عسكرياً وهي تابعة لقضاء العمادية في محافظة دهوك.
وفي ٢٨ كانون الأول الماضي، عادت تركيا لنشر قواتها مع أسلحة ثقيلة، قرب بلدة «بعشيقه»، فوق سلسلة جبال تمتد من الفاضلية إلى كوسرتي.
والحال، إن رجب طيب أردوغان، قال في تصريح يوم ١٠ كانون الأول الماضي إن قواته «لن تغادر العراق… إنها قوات غير قتالية وتعمل لتدريب القوات الكردية». في التصريح ذاته أشار أردوغان إلى اجتماع تركي – أميركي – كردي في ٢١ كانون الأول، من دون أي إشارة لحضور ممثل عن حكومة بغداد. وهذا ما تم بالفعل، وبدا أن تركيا مصممة على إبقاء القوات في شمال العراق.
وفي حين كانت حكومة بغداد تنهي مهلتها لتركيا تمهيداًَ لتقديم شكوى ضدها في مجلس الأمن، ومع حرصها على حل الأزمة ديبلوماسياً، كانت الفصائل الشيعية تعبر عن غضبها بطريقة مختلفة، وتوعد هادي العامري، الأمين العام لمنظمة «بدر»، تركيا برد حازم وحاسم. وقال: «انتم لستم اقوى من الاميركيين وسندمر الدبابات على رؤوسكم».
في إقليم كردستان، زاد دخول القوات التركية من حجم التباينات السياسية وفي شكل حاد، ففي وقت كان بيان حكومة الإقليم «بارداً» قياساً لرد الفعل العراقي، كانت هيرو خان أحمد، عقيلة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، وزعيمة حزبه الاتحاد الوطني الكردستاني تشارك في تظاهرات أقامها ناشطون في مدينة السليمانية للتنديد بتوغل القوات التركية.
وفي هذا الوقت كان برهم صالح يعبر عن معارضته، ضمناً لموقف الحزب الديموقراطي الكردستاني، بزعامة رئيس الإقليم مسعود بارزاني. وقال صالح، إن «استقدام القوات التركية إلى كردستان، كمن يضع أفعى في جيبه ضد عدوه، لكن سيأتي يوم تقوم فيه الأفعى بلدغ صاحبها».
يقول سفين دزئي، المتحدث باسم حكومة الإقليم، إن «تواجد القوات التركية في العراق، يأتي في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم داعش».
وتفيد الرواية الرسمية الكردية بأن «الدولة التركية قامت في نهاية عام (٢٠١٤) بفتح مركزين في منطقة سوران وقلاجولان في إقليم كردستان لتدريب قوات البيشمركة، فضلاً عن موقع آخر لتدريب قوات عراقية أخرى في محافظة الموصل».
الجدل الكردي تصاعد لأن تركيا، في الوقت الذي كانت حكومة الإقليم تتحدث عن «اتفاق» مسبق، كانت ترفع من وتيرة القمع ضد كرد تركيا، وتضرب مواقع حزب العمال الكردستاني المعارض، شمال إقليم كردستان العراق.
التوغل التركي، جاء مع استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة التي تعصف بإقليم كردستان، ولم تزل منذ أشهر الأحزاب الكردية تجمد مفاوضاتها في شأن مشكلة قانون رئاسة الإقليم. ويقول علي شاولا، العضو القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، في تصريحات إلى «الحياة»، إنه «لا تحضيرات مطلقاً لاجتماعات بين القوى السياسية الكردية».
والحال، أن الاصطفاف الكردي صار أكثر وضوحاً مع أزمة التدخل التركي، بين جبهتي «التغيير» والاتحاد الوطني من جهة، والحزب الديموقراطي من جهة أخرى. وتلك الاصطفافات تمتد إلى شكل تحالفات متضاربة بين إيران وتركيا داخل الإقليم.
معارضو بارزاني في إقليم كردستان، يخشون من أن التوغل التركي سيستثمر «الحرب ضد داعش» ليقوم بتحقيق أهداف حكومة رجب طيب أردوغان في تصفية الكرد المعارضين، كما يرى الخبير في الشؤون التركية، محمد نور الدين.
ثم إن تركيا، تتحرك وفق ثلاثة محاور، الأول بدافع مخاوفها من التمدد الكردي في القوس الممتد من العراق إلى سورية، والثاني طموحاتها في شغل أي فراغ يخلفه تنظيم «داعش» في الموصل، فيما المحور الثالث يبقى مرتبطاً بالتنافس مع الغريم الإيراني.
ويقول اللواء المتقاعد سعدي وهدان، إن «نفوذ الكرد في سورية تصاعد منذ بدء النزاع، في مقابل تقلص سلطة النظام، الذي انسحبت قواته تدريجياً من المناطق ذات الغالبية الكردية»، فيما يعتقد الأتراك، وعلى لسان اوزتورك يلماز، القنصل التركي في الموصل، إن الكرد «سيحتلون» الموصل كما «احتلوا» كركوك.
وفي حال جرى الربط بين التدخل التركي في العراق والمسألة السورية ورغبة أنقرة في إنشاء منطقة آمنة، فإن ذلك يعني أن أنقرة تهدف من وراء تدخلها إلى منع التواصل بين كردستان العراق ومنطقة «روج أفا» – غرب كردستان – في سورية، ومنع تدفق المقاتلين الكرد من شمال العراق إلى شمال سورية.
الفصائل الشيعية وتركيا
قبل أن تتوغل القوات التركية في الأراضي العراقية، كانت الفصائل الشيعية المشاركة في الحرب ضد تنظيم «داعش» مقيدة أكثر في جغرافية النزاع العسكري، وفي شكل أدق في الرمادي والموصل، وكان من الواضح إن كثافة قصف طائرات التحالف الدولي تتزايد ضد التنظيم في المناطق البعيدة من الحشد الشعبي.
وتشعر الفصائل الشيعية بالقلق من أن يمهد تحرير المناطق السنية من التنظيم، بعيداً منها، لقوى مناهضة لها لشغل الفراغ المتحقق.
وحين دخلت القوات التركية، بدا واضحاً لدى غالبية القوى الشيعة أن رفع شعار «خرق السيادة» تعبير ضمني عن القلق من أن أي فراغ يخلفه «داعش» سيملأ بقوى مناهضة للنظام في العراق. ويقول رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، حاكم الزاملي، الذي دعا قوات الجيش إلى ضرب القوات التركية التي توغلت شمال العراق، أن دخولها ما هو إلا «جس نبض» تمهيداً لأن تكون بديلاً عن «داعش» الموجود في الموصل منذ 2014.
وفي ١٥ كانون الأول الماضي، تعرض معسكر بعشيقه إلى القصف أدى إلى مقتل وإصابة عدد من الجنود، تضاربت الروايات في شأن عددهم، لكن الهجوم تبنته جهات مختلفة، ففي اليوم نفسه بث كل من تنظيم «داعش»، و»كتائب حزب الله» في العراق وحزب «العمال الكردستاني» صوراً «تتبنى» الهجوم ذاته.
وتشير الوقائع إلى أن أقرب منطقة محررة إلى بلدة بعشيقه، وهي جبل مكحول، تبعد عن المعسكر الذي تعرض للقصف نحو ١٥٠ كيلومتراً. كما أنه من الصعب التأكد من صحة جميع الصور ومقاطع الفيديو التي بثها تنظيم «داعش» من جهة، والفصائل المختلفة، الشيعية والكردية، التي قالت إنها ضربت المعسكر تلك الليلة.
سياسياً، بدأت بعض القيادات الشيعية ترصد أوجهاً مختلفة لغايات التدخل التركي، حيث يقول النائب صباح مهدي، إن تركيا تحاول حماية نفط «داعش» الذي يقوم التنظيم بتهريبه إلى أنقرة، على حد تعبيره. هذه المخاوف تتزامن مع قرار أنقرة ربط أنابيب حقول النفط التابعة لحكومة إقليم كردستان، مع الخط العراقي الممتد إلى الموانئ التركية على البحر المتوسط.
وحين كانت الفصائل الشيعية تصعد من لهجتها ضد تركيا، وتلمح إلى تواطؤ زعامات سنية عراقية مع الأتراك، كان الوسط السياسي السني يحاول الدفاع عن التدخل التركي بمشابهته بالتدخل الإيراني في العراق.
ووفق هذه الصورة المركبة، فإن تركيا لن تترك مواقعها في العراق، لأنها ربحت فرصة ثمينة في استثمار التناقضات العراقية، بين كردستان وبغداد، وبين الشيعة والسنة، وهو ما يرجح رواية أن أنقرة ستسجل حضورها في الموصل، الحلم التاريخي للعثمانيين، بعد انتهاء عمليات التحرير المنتظرة من تنظيم «داعش».
الحياة