المواقف الدولية واحتمال تطور ردّات الفعل التركية تجاه المسألة السورية

8

مثّلت المعارك الأخيرة في الشمال السوري تحدّيًا لمجمل القراءة التركية للمسألة السورية، وذلك في ضوء التقدم الذي حققته قوات النظام والمليشيات المدعومة إيرانيًّا بغطاء جوّي روسي في حلب من جهة، وقيام وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي (الذي تعُدّه تركيا جماعةً إرهابيةً)، بالتوغل داخل حدود المنطقة التي تطالب أنقرة بأن تكون آمنةً، من جهة أخرى.

 

ويرى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، أن التطورات الأخيرة هدّدت بإنشاء منطقة عازلة معاكسة يشغلها الأكراد، ويتمّ بموجبها عزل تركيا تمامًا عن الشمال السوري، وأن قراءتان ظهرت في داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم بشأن كيفية التعامل مع ما يجري على الجانب الآخر من الحدود مع سورية.

 

فالقراءة الأولى ترى ضرورة التحرك بسرعة لإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، بغضّ النظر عن المخاطر المترتّبة على هذا القرار، ومن ثمّ يجري إبقاء قوات النظام السوري والمليشيات المتحالفة معها بعيدة عن الحدود التركية، وهو ما يُتيح للمعارضة المسلّحة هامش حركةٍ في منطقة آمنةٍ من ناحية، ويمنع قوات حماية الشعب الكردية من وصول كانتونات الإدارة الذاتية الثلاث جغرافيًا من ناحية أخرى. أمّا القراءة الثانية، فقد طالبت بالحذر من الانجرار إلى “المستنقع” السوري، أو المخاطرة بمواجهة عسكرية مع روسيا، وباستمرار العمل في إطار المظلة التي يَفِي بها الناتو والمراهنة على العمل الدبلوماسي في إطار تفاهمات فيينا.

 

ويقول المركز العربي في تقرير له بعنوان “خيارات تركيا الصعبة في الشمال السوري”، إنه “بين هاتين القراءتين، حاولت تركيا التأثير في الوضع الميداني قرب حدودها، ولكن من دون الحاجة إلى تحمّل مخاطر التدخل بريًّا. من أجل ذلك، بعد أن تمكّنت قوات سوريا الديمقراطية من التقدّم والسيطرة على قرية عين دقنة الواقعة شمال بلدة تل رفعت، وقطع الطريق الإستراتيجية المارّة منها في اتجاه إعزاز شمالًا وحلب جنوبًا، بدأ الجيش التركي مساء يوم 13 شباط/ فبراير 2016 قصفًا مدفعيًّا مركّزًا طال مساحةً واسعةً من النقاط التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية، بما فيها مطار منغ ومنطقة دير جمال في ريف حلب الشمالي. وصرّح رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو أثناء إعلانه بدْء عمليات القصف بأنّ القوات التركية قصفت المناطق القريبة من إعزاز السورية ردًّا على النيران التي استهدفت الأراضي التركية، ووفقًا لقواعد الاشتباك، عادًّا أنّ التطورات في سورية تُهدّد أمْن تركيا القومي. ودعا وحدات حماية الشعب الكردية إلى الابتعاد فورًا عن إعزاز والمناطق المحيطة بها.

 

ويشير التقرير إلى أن ردّات الفعل التركية على التطورات في الشمال السوري استدعت مواقف دوليةً، جاء أكثرها متحفّظًا. فقد دعَت واشنطن في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، في 13 شباط/ فبراير 2016، أنقرة إلى وقف القصف؛ إذ اشتمل البيان على القول: “لقد دعونا الأكراد السوريين وقوات أخرى تابعةً لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي إلى عدم استغلال الفوضى السائدة للسيطرة على مزيد من الأراضي (…) لقد رأينا أيضًا تقارير بشأن قصف مدفعي من الجانب التركي للحدود ودعونا تركيا إلى وقف هذا القصف”.

 

أمّا وزارة الخارجية الفرنسية، فقد دعت تركيا في بيانها الصادر في 14 شباط/ فبراير 2016، إلى وقف قصف المناطق الكردية في سورية. وقال البيان “تشعر فرنسا بالقلق بشأن الوضع المتدهور في منطقة حلب وشمال سورية. ندعو لوقف كلّ أنواع القصف سواء من النظام وحلفائه لكامل الأراضي السورية أو من تركيا للمناطق الكردية (…) إنّ الأولوية اليوم ينبغي أن تكون لمحاربة تنظيم داعش وتطبيق الاتفاقات التي تمّ التوصل إليها في ميونيخ لوقف “العمليات العدائية” في سورية”.

 

ويعتبر التقرير أن “البيانان الصادران عن الخارجيتين الأميركية والفرنسية عكسا مدى التغيّر الذي طرأ على الأجندة الدولية والرؤية للصراع في سورية، ومنها يبدو واضحًا أنه على الرغم من إعلان تأييدها حقّ تركيا في الدفاع عن نفسها في مناسبات مختلفة، فإنّ إدارة الرئيس أوباما لا تُبدي أيّ حماسة لتصعيدٍ تركيٍّ على الحدود مع سورية مخافة أن يؤدّي ذلك إلى مواجهة مع موسكو، أو تعطيل الجهد الذي يتعلّق بالحرب على داعش، والذي تُعدّ قوات سوريا الديموقراطية المدعومة أميركيًّا جزءًا أساسيًّا منه. وبناءً على ذلك، لا يُتوقع أن تدعم واشنطن أيّ تدخل برّي تركي لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، وستذهب واشنطن – على الأرجح – إلى تحذير تركيا من أنّ حلف الأطلسي ليس ملتزمًا الدفاع عنها إنْ بادرت هي إلى صدامٍ عسكريٍّ في سورية.

 

ويتابع بالقول، انطلاقًا من القيود الداخلية والإقليمية والدولية المفروضة على أيّ تحّرك تركي في المسألة السورية، وفي ضوء إصرارها على منْع روسيا وحلفائها (من قوات حماية الشعب الكردية) من تحقيق غاياتهم في عزْل تركيا عن التأثير في مجريات الصراع السوري، تتّجه أنقرة نحو جملة خيارات متوازية ومفتوحة تعمل من خلالها على تحسين شروطها في الملف السوري مراعيةً في الوقت نفسه جملة التفاهمات القائمة بين واشنطن وموسكو، وستكون الخطوات الممكنة التالية مجالًا مهمًّا لتحسين تلك الشروط، وهي:

 

  1. استمرار قصف المواقع التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية ومنْع تقدمها شمالًا في اتجاه إعزاز، ريثما يتمّ التوصل إلى جملة تفاهمات تُثبت مجالات السيطرة على الأرض. وفي الأثناء ستحاول أنقرة جاهدةً عدم الانجرار إلى مواجهة مع القوات الروسية الموجودة في سورية.

 

  1. زيادة مستوى التنسيق التركي/ السعودي، والاستمرار في العمل على حشْد المواقف الدولية المساندة لفكرة تدخلٍ برّي محدود في شمال سورية، في إطار عمليات التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، وبهدف إنشاء ملاذات آمنة تخفّف حدّة موجات اللجوء السوري والمخاطر الأمنية التي تهدّد من خلاله تركيا وأوروبا. وقد أمكن الحصول على تأييد ألماني مهمّ بهذا الخصوص، ومن المرجّح ازدياد مستوى التأييد لهذا الخيار أوروبيًّا في حالِ إخفاق الجهد الدبلوماسي الراهن لحلّ الأزمة السورية. كما يُرجّح أن تزداد الضغوط على إدارة أوباما، للمضيّ في هذه السبيل، في حال تبيّن أنّ روسيا تخادع بشأن الحلّ السياسي في سورية.

 

  1. رفع مستويات الدعم الذي تتلقاه المعارضة السورية في الشمال وتطوير نوعيته سياسيًّا وعسكريًّا، على نحوٍ يجعلها تضمن إعادة التوازن العسكري وقادرةً على استرداد المناطق التي خسرتها مؤخّرًا، إضافةً إلى زيادة مستوى الدعم الذي تتلقاه الهيئة العليا للتفاوض.

 

على أنّ كلّ ذلك لا يغيّر من حقيقة أنّ خيارات تركيا تزداد صعوبةً بمرور الوقت، وما تدخّلها العسكري المحدود في مواجهة اقتراب وحدات حماية الشعب الكردية من حدودها إلّا تأكيدٌ على هذه الحقيقة. فالمحددات الأساسية للسياسة التركية في التعامل مع القضية السورية لم تتغيّر، وهي مرتبطة بعوامل محلّية وإقليمية ودولية معقّدة ومتشابكة، وما يزيد من ضيق مساحة الخيارات أمام تركيا هو عدم وجود إستراتيجية واضحة لديها في التعامل مع التطورات الميدانية الأخيرة التي شهدها الشمال السوري.

 

كلنا شركاء

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.