التنمية السياسية كاستجابة للصراع في سوريا
من بين أوجه التنمية الخمسة – السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية – المتعارف عليها، تفتقر مشاريع التنمية في سوريا إلى التركيز على جانب التنمية السياسية. فنرى في سوريا انتشار مشاريع اقتصادية وخدمات اجتماعية انتقائية دون وجود كبير لجانب التنمية السياسية، إن غياب التنمية السياسية يعرقل حل النزاع الأكبر في سوريا والنزاعات المتفرعة عنه. فالتنمية السياسية ركن أساسي من أركان التنمية الشاملة، وغيابها لا يعوّضه اقتصاد قوي ولا خدمات اجتماعية.
لسوء الحظ، ليس من السهولة فهم وتمييز مفهوم التنمية السياسية لعدة أسباب، منها أنه يتم الخلط بينه وبين مفاهيم أخرى كالإصلاح السياسي والديمقراطية، ومن هذه الأسباب أيضاً احتواء مفهوم التنمية السياسية على مفاهيم فرعية فلسفية وايديولوجية كالمساواة. ويصبح الأمر أكثر تعقيدا خاصة في ظل الصراع الذي تشهده في سوريا اليوم، والتعتيم والقمع في مرحلة ما قبل 2011.
وأبعاد التنمية السياسية كما لخّصتها العديد من الدراسات والابحاث السياسية التي برزت أبان انتهاء الحرب العالمية الثانية، هي تزايد معدلات التباين والتخصص في الأبنية السياسية، وتزايد علمنة الثقافة السياسية، وإيجاد نظم تعددية، وتحقيق النمو الاقتصادي والمشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية، وترسّخ مفاهيم الوطنية والمساواة والسيادة.
وفي سوريا، هذا البلد الذي عانى من حكم الحزب الواحد لما يزيد عن الأربعين عام، فإن أي حديث عن تنمية عامّة في البلاد هو غير منطقي، لأن أي مشاريع تنموية لا تقوم أصلا على حقوق الإنسان ولا تسعى إلى تحسين حياته وتعزيز حقوقه وحريّاته، هي تنمية بتراء فصّلت على مقاس مصالح السلطة. وتحت حكم بشار الأسد، لم ترتقي التنمية في بعض المناطق الريفية حتى إلى مستوى تقديم الخدمات، حيث افتقد الناس هناك إلى أبسط مقوّمات الحياة، إضافة إلى أداء الدولة الأمنية العميقة التي تحكّمت بحياة الناس اليومية وسلوكهم، بداية من الشعار الصباحي الذي يردّده الطفل في المدرسة كل يوم، الذي يمجد فيه القائد ويتعهد بمعاداة أعداء الوطن، مرورا بقضايا الاعتقال السياسي، وصولا إلى تحويل البلد بموارده الطبيعية والبشرية إلى ملك للفئة الحاكمة.
وبعد انطلاق الثورة في سوريا مطلع 2011، وازدهار النشاط المدني، درج جزء كبير من المنظمات غير الحكومية العاملة داخل سوريا أو في دول الجوار على تصنيف عمله في خانة التنمية، لكن هذا الأمر حمّل تلك المنظمات ما لا طاقة لها به، خاصة أن البلد يشهد نزاعاً على امتداد كامل أراضيه تقريبا. ومعظم هذه المنظمات عنت بالتنمية “المشاريع المستدامة الأثر،” مع خلط واضح بين مفهوم الخدمة ومفهوم التنمية. وهذا ليس لقلّة معرفة عند تلك المنظمات، ولكن بسبب الحاجة الماسة التي خلقتها الحرب، ولاستحالة انجاز مشاريع تنمية مستدامة على أي صعيد داخل سوريا، والنزاع على أشدّه، وما من بوادر حلول في الأفق.
أمّا الجهود المتضافرة التي اتّجهت نحو رسم خطط لبناء المؤسسات في سوريا الديمقراطية مستقبلا، وطالبت بالعدالة الانتقالية، ووضعت تصوّرات لحوكمة رشيدة، هي الأقرب في عملها إلى المساهمة في تحقيق تنمية سياسية في سوريا، رغم أنّه غاب عن أذهان البعض منها أن الانتقال الديمقراطي دون آلية محاسبة للمرتكب لن يؤدي إلا إلى مزيد من الأعمال الانتقامية الدموية.
بدلاً من تجاهل موضوع التنمية السياسية أثناء الحرب وما بعدها، باستطاعتنا إمعان النظر في تجارب دول أخرى مثل كولومبيا ويوغوسلافيا ورواندا ومالاوي وغيرها، باعتبارها دول شهدت نزاعات، بعضها فشل في تحقيق تنمية سياسية وديمقراطية في مرحلة ما بعد النزاع، والبعض الآخر نجح.
على سبيل المثال لا الحصر فإن رواندا هي من النماذج التي من الممكن للسوريين المؤمنين بأهمية التنمية السياسية وأثرها في حل مشكلاتهم الاستفادة من تجربتها. فهذا البلد الذي شهد حربا أهلية دامية في مطلع التسعينات ومجزرة في عام 1994 كانت نقطة تحوّل عالمية في مفاهيم عديدة منها التدخل والاستجابة الإنسانية، وهو ما أدى إلىمشروع Sphere، وهو مجموعة من المعايير الإنسانية وطرق التكيف من أجل تقديم المياه النظيفة والمساعدات الغذائية والخدمات الصحية. وكان التقدم الحادث في مجالات التحول الديمقراطي والمصالحة هو العامل المساهم في تحسين حياة الروانديين على كل المستويات.
كانت أولية الحكومة الانتقالية في رواندا والتي تشكّلت بعد هذه المجزرة هى ألا تتكرر هذه الجريمة. وانطلقت من هذه النقطة لتحدث تغيّرات جذرية، حيث تم فتح باب المصالحة من خلال محاكمة قادة المجزرة في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وحظر التصنيفات العرقية. وساعدت هذه الحكومة البلد لتتقدم سياسيا واقتصاديا، من خلال توفير التعليم المجاني والإلزامي والاستثمار في السياحة وصناعة البن.
تبنّت راوندا نظام حكم تعدّدي شاركت فيه معظم الأحزاب، وشجعت اللاجئين على العودة، ما نتج عن رجوع 1.2-1.3 مليون لاجئ. وكانت انتخابات 2003 بمثابة محصّلة سنوات تسع من الانتقال الديمقراطي، الذي كان من نتائجه أن تقدّمت الديمقراطية في البلاد بشكل ملحوظ عبر تمكين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والقطاع الخاص. كما أن المرأة أصبحت تشغل في رواندا نصف المقاعد في البرلمان والحكومة.
ومن أهم الدروس المستفادة من التجربة الرواندية وغيرها من التجارب الناجحة، هو أنه من الواجب أن تشتمل مشاريع التنمية على جميع مجالات التنمية، وبدون هذا الأمر فإن الباب سيفتح على مصراعيه للعودة إلى الحكم الاستبدادي، الذي نزل السوريون لإسقاطه. شرح الاقتصادي أمارتيا صن، الحائز على جائزة نوبل، في كتابه “التنمية الحرية” أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تُفصل عن الحقوق السياسية والمدنية. وبالنظر إلى الشرق الأوسط، يمكن القول إن رغبة شعوب الشرق الاوسط في التحديث والقضاء على التخلف السياسي هي التي أدت الثورات والمطالبة بإسقاط نظم الحكم الاستبدادية وأدواتها.
إن إنهاء الحرب بدون خطة لإنجاز هذه المطالب سيؤدي إلى تجدد القتال.
انطلاقاً من تجارب الدول الأخرى، يجب تقييم تجربة التنمية السياسية بأبعادها الشاملة في سوريا قبل 2011 وفي الوقت الحالي. إن المشاركة العامة في الشئون السياسية يجب أن تكون ذات أولوية، وهذا يتضمن تعديل الأطر الدستورية والقانونية التي تحد من هذه المشاركة. والمشاركة السياسية يجب أن تشمل تلك الفئات التي كانت غائبة عن المشاركة في أي نشاط سياسي، أو تم حرمانها من حقوقها. ويجب تمكين المرأة السورية من أجل تحقيق علاقة شراكه متساوية مع الرجل في المجال السياسي، باعتبار أن هذا النوع من المشاركة الفاعلة للمرأة هي الضامنة لحصولهم على حقوقهم القانونية والاجتماعية والاقتصادية. ويجب أن يتضمن هذا الإطار المستقبلي تحديث القوانين الانتخابية في البلاد ووضع آليات من شأنها تحقيق مستوى عال من الشفافية والنزاهة في الانتخابات، واعطاء الفرصة للشباب. مثل هذه الأمور سوف تساعد على بناء الثقة في النظام السياسي
في نفس الوقت الذي يتم فيه تنفيذ هذا الإطار المستقبلي، يجب أن يتم وضع ضمانات من أجل منع أي تراجع في هذا السياق، وهذا يتضمن توثيق محاولات الحد من الاختيار السياسي الحرّ، ورفع الوعي فيما يتعلّق بأهمية المشاركة السياسية الفاعلة لكل المواطنين وتفعيل آليات مراقبة مساءلة السلطات.
ستكون من أولى النتائج المباشرة لهذه المقترحات تحسين الانطباع الشعبي فيما يتعلق بالأحزاب السياسية والسياسيين والناشطين الحزبيين، هذا الانطباع الذي كان من الطبيعي أن يكون سلبيّا بسبب عقود عاشها الشعب السوري في ظل الحكم الاستبدادي وفي ظل الحرب.
لقد تم اختصار أهداف التنمية المستدامة في 17 هدفاً، أعلن عنهم قادة العالم في سبتمبر 2015 من أجل تحقيق التنمية المستدامة بحلول 2030. وقد نصّ الهدف السادس عشر من هذه الأجندة الجديدة على تحقيق “العدل والسلام والمجتمعات القوية،” ما يعني أن وقف الموت المستمر في سوريا، والذي يتغاضى عنه العالم، هو الأولوية اليوم عند أي حديث عن تطلّعات مستقبلية في سوريا.
كلنا شركاء