القضية الكردية في تركيا: معاناة تنتظر حلاً إبداعياً
عبدالباسط سيدا
القضية الكردية واحدة من أقدم وأهم قضايانا في المنطقة كونها تجسّد مصير وتطلعات أكثر من أربعين مليون إنسان، قُسّمت أرضهم ووزعت في مراحل مختلفة بين أربع دول في المنطقة هي تركيا وإيران والعراق وسورية، وكذلك لتفاعلها مع المعادلات الإقليمية والإهتمامات الدولية، بخاصة في ظل ما عاشته منطقتنا من هزات عنيفة خلخلت كيانات ما بعد سايكس بيكو، وأبرزت بوضوح ضرورة إعادة التوازن إلى المعادلات المختلّة استناداً إلى المعطيات الجديدة، وإلى ما يُستشف من آفاقها المستقبلية.
والأمر اللافت أن الاهتمام الدولي بها، والتركيز الإعلامي عليها، تناولا بصورة رئيسة كردستان العراق منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا. ومع تطورات الأوضاع في سورية، والتدخلات الإقليمية السافرة فيها، سُلّطت الأضواء على القضية الكردية في سورية، وتبيّن للجميع أن الرواية البعثية الرسمية بخصوص تاريخ الوجود الكردي، وحجمه ضمن الكيان السياسي السوري، وهي الرواية التي ما زال النظام الأسدي متمسّكاً بها، لم تكن سوى رواية أيديولوجية – رغبوية، لم تتطابق في أي وقت مع وقائع الأمور.
هذا في حين أن الدولتين الأكبر والأقدم في تاريخ المنطقة الحديث (تركيا وإيران) تضمان المساحة الكردستانية الجغرافية الأوسع، والحجم الديموغرافي الكردي الأكبر.
ومع ذلك، كان التوجه التركي الرسمي الملتزم بالتوجه القومي المتشدد الذي رسّخه مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال يتمحور حول فرضية إنكار أي وجود كردي ضمن تركيا، الكيان السياسي الذي خضع لصيغة من صيغ إعادة الهيكلة بعد الحرب العالمية الأولى.
أما في إيران، فكانت جهود النظام الشاهنشاهي متمركزة حول الرغبة في إظهار النسيج المجتمعي الإيراني في هيئة متجانسة على الصعيد العرقي، وذلك على النقيض من الصورة الواقعية للفسيفساء الأقوامية والمذهبية، وهي صورة أشبه بالسجادة العجمية، صورة متمرّدة على اللون الواحد الذي حاول النظام الإيراني «العلماني» فرضه في حينه، ويعمل النظام «الإسلامي» راهناً على ترسيخه، وتطويع الواقع ليأتي موائماً للمقاسات التي تتناسب مع حساباته.
وما يهمنا هنا هو واقع وآفاق القضية الكردية في تركيا، بناء على تأثيراتها الكبرى الآنية والمستقبلية على المستوى التركي الوطني الداخلي، وعلى المستوى الإقليمي، وعلى المستوى السوري خصوصاً. فالوجود الكردي في تركيا هو الأكبر والأكثر تأثيراً، ولا يقتصر على المناطق الكردية أي كردستان تركيا، بل يشمل غالبية المدن التركية، بخاصة الكبرى منها: اسطنبول وأنقرة وإزمير. وهناك حالة من الإندماج الكردي في مختلف مفاصل الحياة المجتمعية والرسمية في تركيا، وهذا فحواه أن العلاقة التفاعلية الإيجابية بين الكرد والدولة التركية تُعد ركن الاستقرار الداخلي في تركيا، ومقدمة لتحرّك تركيا الإقليمي المرتاح، والخطوة الأهم في طريق المصادرة على أية جهود استغلالية دولية بغض النظر عن المزاعم والادعاءات.
وقد أخذ حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم عام 2002 هذه الحقائق في اعتباره، واتخذ جملة خطوات جرئية للانفتاح على الكرد، وهي خطوات كانت تُعد إلى وقت قريب من الأحلام المبتغاة، ولكنها لم ترتق في كل الأحوال إلى المستوى المطلوب لحل القضية الكردية في تركيا حلاً عادلاً للجميع.
وبدأت العملية السياسية عبر الحوار مع زعيم حزب العمال الكردستاني قبل نحو أربع سنوات، وقد أسهمت العلاقات الودية مع إقليم كردستان العراق، ومع الرئيس مسعود البارزاني تحديداً على قاعدة المصالح المشتركة، في تهيئة الأجواء لحل مطلوب منتظر. وكان واضحاً أن كل ذلك يتعارض مع استراتيجية النظام الإيراني التي تقوم على إضعاف المحيط العربي والتركي. فعربياً، اعتمد النظام المذكور أسلوب نقل خط المواجهة من الحدود العراقية – الإيرانية إلى داخل المجتمعات العربية نفسها، بل إلى العمق الاستراتيجي للأخيرة، والاعتماد على الموارد البشرية العربية لتنفيذ أهداف استراتيجيته في أجواء تعبئة مذهبية هستيرية لم تعرفها مجتمعات المنطقة من قبل، وهذا ما فعله النظام المعني في كل من العراق ولبنان وسورية واليمن وغيرها من الدول.
وفي سياق التنافس مع تركيا على الزعامة الإسلامية «ما بعد العربية» في المنطقة، وعلى الدور الاقتصادي – السياسي الريادي فيها، وجد النظام الإيراني في حزب العمال الكردستاني ضالّته، واستثمر فيه منذ الثمانينات، كما فعل مع حزب الله، وتمكّن من استمالة قياداته العسكرية بخاصة بعد اعتقال زعيمه أوجلان عام 1999. وتمكّن النظام نفسه بفعل هذا الحزب من شلّ الوضع الكردي في الداخل الإيراني، وتغلغل نتيجة واقع الخلافات والمنافسات الحزبية في إقليم كردستان العراق، وتمكّن من التحكّم بالمناطق الكردية في سورية عبر حزب الاتحاد الديموقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني). ومن الواضح أن التقاطع الذي تم بين توجهات أوباما في المنطقة والاستراتيجية الإيرانية التي انعكست إيجاباً لمصلحة الحزب المذكور الذي لا يبدو في مقدوره، حتى الآن على الأقل، تجاوز الإطار المرسوم له إيرانياً، على رغم كل التسويق الروسي وحتى الأميركي له.
وجاءت التفجيرات التي شهدتها أكثر من مدينة في تركيا، ومن ثم الاعتصامات المسلّحة في الجزيرة ونصيبين وديار بكر/آمد وغيرها، والتعامل العنيف معها من قبل السلطات التركية، لتؤكد استمرارية النظام الإيراني في استراتيجية نقل المعركة إلى أرض الآخر الخصم، وذلك لإبعادها عن عمقه الداخلي، والمصادرة على تبعاتها. وقد أسهمت هذه المتغيّرات في تعزيز مكانة المتشددين ضمن حزب العمال الكردستاني وضمن الدولة التركية نفسها، الأمر الذي عقّد، ويعقّد، الأمور، وينذر بمزيد من التصعيد الذي لن يكون لمصلحة أي طرف على مستوى تركيا، ولا لمصلحة الاستقرار الإقليمي. كما أن سورية التي ترتبط مع تركيا بحدود برّية طويلة، ستتأثر هي الأخرى عبر كردها واقتصادها وبنيتها المجتمعية إيجاباً أو سلباً بما يجري لدى جارها الشمالي.
القضية الكردية في تركيا تخص أكثر من 20 مليون مواطن. وهذا معناه أن الحكومة، بل الدولة التركية، مطالبة بمقاربة هذه القضية بصورة جادة ومسؤولة، الأمر الذي يستوجب قبل كل شيء الإقرار بوجود قضية تستلزم المعالجة، ومن ثم تقديم خطة معالجة متكاملة حولها، خطّة تعرض على القوى السياسية الكردية ومنظمات المجتمع المدني والفعاليات الكردية بتوجهاتها المختلفة، ليكون الحوار حولها، وتعديلها إذا لزم الأمر، حتى يتم التوافق. وهذا لن يكون من دون وجود عقلية تفاهم لدى مختلف الأطراف، عقلية تركّز على الحل الإبداعي من خلال التعاون الإيجابي. أما أن يتمسّك كل طرف بموقفه المتشدد، ويصرّ على خياراته التي غالباً ما تتجاهل الآخر، وتعرقل أي سعي من أجل فهم موقفه من الداخل، فهذا مؤداه المزيد من الاضطراب والتصدّع والدماء.
المؤشرات توحي بوجود رغبة واقعية لدى المعتدلين من الجانبين التركي والكردي للوصول إلى تفاهمات، ولعله من نافل القول أن نؤكد هنا أن استقرار تركيا هو في مصلحة استقرار الإقليم بأسره، ومثل هذا الاستقرار سيكون في مصلحة الشعوب الإيرانية نفسها، ولكن شرط أن يقطع نظامها مع عقلية التوسع والهيمنة والتخريب في مختلف الإتجاهات.