حل عسكري ام سياسي في سوريا؟
لا يوجد بعد أي اتفاق جامع حول طبيعة الحل المطلوب للمسألة السورية، وهل هو سياسي أم عسكري، على الرغم من مرور أربعة أعوام ونصف على الثورة السلمية والعمل المسلح. ينقسم السوريون إلى قائلين بالحل العسكري وباستحالة الحل السياسي مع نظام قتل وجرح وأعدم وعذّب واعتقل وهجّر وشرّد الملايين منهم، وقائلين باستحالة الحل العسكري وبضرورة السعي إلى حل سياسي، يعيد المهجرين والمشردين إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، ويوقف القتل والتدمير، قبل أن يقضي النظام والأصولية الجهادية على البلاد والعباد.
ومع أن هناك مواقف متنوعة في كل واحد من هذين الحلين المقترحين، فإن المبدأ المعتمد في النظر إليهما يفصل بينهما، ويقيم تناقضا قاطعا بينهما، يضعهما في جانبين متقابلين، ويجعل من المحال إيجاد أية صلة، أو أي تداخل بينهما، فالحل السياسي لا يتقاطع مع الحل العسكري، وهذا ينفي نفياً قاطعاً أية صلة له مع ذاك، والمرء إما أن يكون مع الحل السياسي أو مع الحل العسكري، لأنه ما من مجال لأي موقف يلتقي عنده الحلان، على الرغم من أن وقائع التاريخ وخبرة السياسة تقول عكس ما يعتقده الداعون إلى استبعاد الحل السياسي لمصلحة الحل العسكري، وبالعكس. واليوم، ونحن نشهد انتصارات عسكرية استراتيجية يحققها المقاومون ميدانياً، ونسمع أصواتاً دولية تربط الأعمال العسكرية بحل سياسي مرتقب يعمل له الخمسة الكبار والعرب، يقول بعض المعارضين باستحالة الحل العسكري، وبحل سياسي يجب أن يكون خيار الثورة الوحيد.
بداية، لا يوجد، ولم يوجد، في أيّ من فترات الاضطراب الاجتماعي والسياسي والعسكري، حل عسكري من دون مكونات سياسية، أو حل سياسي من دون مفردات عسكرية. وليس هناك ولن يكون هناك حل سياسي صرف أو حل عسكري بحت. هناك دوما حل مركب، تختلط فيه جوانب عسكرية وسياسية، تختلف تمثيلاتها من مرحلة إلى أخرى من مراحل الصراع، فترجح أوجهها العسكرية على السياسية في مرحلة، ثم ترجح جوانبه السياسية في مرحلة لاحقة، وتصبح أكثر أهمية جوانبه العسكرية، فإن كان العمل الثوري يسير في الاتجاه الصحيح، شق العمل السياسي الطريق للعمل العسكري في طور منه، وأسهم العمل العسكري في تحديد هوية الحل السياسي، وجعله لمصلحة الثورة، وفرضه على الخصم في طور آخر، فالتفاعل التصاعدي المتبادل بين جانبي الثورة العسكري والسياسي الذي يقربها من هدفها، ويأخذها إلى النصر، هو معيار نجاح العمل الثوري وفشله.
في المقابل، نلاحظ دوما في الثورات الفاشلة تنافر جانبيها هذين وتعارضهما، وإرباك أحدهما الآخر وإثارة البلبلة والاضطراب في أولويات العمل الثوري، مع ما يترتب على ذلك من فقدانه المبادرة، واقتصاره على ردود أفعال انفعالية، متقطعة ووقتية، مثلما حال الثورة السورية اليوم التي تكاد سياساتها تنضوي في ذلك الصنف من التصرفات الذي كان أجدادنا يسمونه “خبط عشواء”.
في ضوء ما تقدم، تكمن قيادة الثورة في التوفيق والانسجام بين جانبيها العسكري والسياسي، وإقامة بيئة بينهما يغذي كل جانب فيها الجانب الآخر وينمّيه، ويدفع به نحو الهدف النهائي، في جدلية تصاعدية، تضع السياسي في خدمة العسكري والعسكري في خدمة السياسي، إلى أن يحدث التحول النوعي الحاسم الذي يعبر عن تدامجهما وتوحدهما، ونسميه انتصار الثورة.
إذا انفك العسكري عن السياسي، أو السياسي عن العسكري، وتضاربت أجنداتهما، وقعت الكارثة، وغدا العمل الثوري مرشحا للهزيمة، نتيجة تناقض حديه هذين، أو تضاربهما، أو تعارضهما. وصارت ثورية أي عمل تقاس بنجاحه أو فشله في التوفيق بينهما، خصوصاً في الحالات التي تخضع الثورة لتقسيم عمل يضع أهل السياسة في مكان، وأهل المقاومة المسلحة في مكان مختلف، وكان اختلاف موقعيهما يرشحهما لصراعات تولد من تباينه، ومما يمكن أن ينتجه من تناقضات بينهما في المصالح والنظرة والأهداف. في حال كهذه، نجد ما يماثلها في الثورة السورية، يتوقف نجاح الثورة على إزالة ما هو قائم ومحتمل من تباينات بين قيادتيهما، وبلورة مواقف مشتركة، توحد نظرتهما ومواقفهما من الهدف المشترك والمرحلة التالية لبلوغه، ما دام خلافهما سيفضي حتماً إلى استئثار أحدهما بالسلطة، وإبعاد الآخر عنها، وإلى ما يصحب ذلك من مشكلات قد تكون قاتلة.
تقترب سورية من حل مركب: عسكري/ سياسي، يشق الجانب المقاوم، العسكري، الدرب فيه أمام الحل السياسي الذي عطلته روسيا وإيران في جنيف 2، وسيكون من الصعب جداً عليهما رفضه بعد يومنا، في حال تواصل انهيار جيش النظام بالوتيرة التي نعيشها اليوم. سيطيح هذا الحل بشار المجرم وعصابته، وسيطبق وثيقة جنيف 1 التي تضمن حقوق جميع السوريين في الحياة والأمن والعيش المشترك، فهل يبادر أحد من رجال السلطة إلى إزاحته والانخراط في الحل المقترح، حفظا لدماء السوريين عامة، والعلويين منهم خاصة، فيعتبر، عندئذٍ، جزءاً من الثورة، انشق وانضم إليها، ولو في حقبة جد متأخرة، قبل سقوط النظام بأسابيع أو أشهر قليلة، ويستبق ما قد يترتب على إخلاص المهزومين لقائدهم، أسوة بما حدث في حالات تاريخية مشابهة، وقع أهمها في ألمانيا النازية، انتهت بكوارث حلت بهم وبأنصارهم قبل أي أحد آخر، أدركوا، ولكن بعد فوات الأوان، أن خطأهم يرقى إلى مستوى جريمة كبرى، في حق وطنهم وشعبهم.