سورية: إلى التقسيم دُر!
نصح سياسيون كرد بُعيد الاحتلال الأميركي للعراق بتطبيق مبدأ الفيدرالية على الأراضي العراقية، بحيث تؤمّن الطوائف والقوميات سلامتها وتخفَّض أكلاف حروب أهلية متوقعة، متذرعين في الوقت نفسه بنجاح التجربة الكردية.
لكن الاقتراحات الكردية تلك جوبهت برفض العرب السنّة والشيعة بأكثريتهم، وفي متن أحاديث أكثر السياسيين العراقيين نُظر إلى المقترح الكردي كأنه إهانة للعراق المركزيّ، لا بل هتف بعضهم بوجوب إعادة الكرد إلى حظيرة الدولة المركزية!
حطم بعث العراق المجتمع، وتحت سجادة القوة والهيبة التي اتسمت بالقمع والعنف والقتل (رياضة البعث اليومية) خبَّأ الكراهيات القومية والطائفية، التي سرعان ما ظهرت مع الاحتلال الأميركي. لاحقاً ظهرت مصارحات تشي بندم على ما فات ومراجعات مهمة، إذ أن أغلب ساسة العراق متيقنون من صواب الفيدرالية كحل واقعي، لكن الطريق إليها باتت صعبة للغاية مع تحوُّل العراق إلى دولة فاشلة بكل المقاييس، أو ربما مع تحوُّل العراق نفسه إلى مقياس جديد للدولة الفاشلة.
ثمة مفارقة لا ضير بتذكرها هنا، وهي اعتبار النموذج الفيدرالي – الاتحادي تقسيماً عوض الاتفاق على اعتباره شكلاً آخر للوحدة الوطنية، والبناء الوطني. لكن الغرابة تتوقف إذا ما وقفنا على حال الدولة المركزية بخصائصها البعثية التي تحكمت بأحوال المواطنين في الحواضر والبوادي وأقاصي البلاد، فأعاقت وألغت كل تشكّل وطني متوّقع يحيل الدولة إلى أمّة.
في سورية دارت أحاديث ومخاوف من «طائف سوري» شبيه بطائف لبنان في المراحل الأولى من عمر الثورة السورية، وسرعان ما بدّدت الوقائع العسكرية على الأرض هذا التطيُّر والاستشراف فعادت بالكثيرين إلى المربع الأول حيث «إما انتصار الثورة، أو انتصار النظام». وقد يبدو الهدف من ذلك استبعاد المآل العراقي، لكن الواقع يفيد بتشابه مآلات دولتي البعث، وأن ما يحدث في سورية مطابق لما حدث ويحدث للعراق. فالمكابرة هي عينها في ما خص التقسيم على أساس «سلامة التنوّع الإثني والطائفي»، وليس يذاع سرٌّ إذا قلنا إن أحلام الدولة المركزية لا تغيب عن خاطر أغلب المعارضين والموالين للنظام. بيد أن للواقع كلمة مغايرة لمشيئة ورغبات أولئك «المركزيين»، حيث مسير المعارك وسير الهزائم والانتصارات، يُشير إلى إمكان تقسيم بلا اتفاق، تقسيم يحدث من دون خرائط وإحصاءات، تقسيم يُبقي الحروب لأجل أمتار ومنافذ وطرق مواصلات ومواطئ ثروات.
ما الذي يمكن أن نسمّيه إذا تمكّن السنّة من حكم المناطق السنّية فحسب، والعلويون من حكم مناطق كثافتهم السكانية، وأن يشغل الكرد بشكل طبيعي مساحة تواجدهم عسكرياً وإدارياً، والأمر يصدق على الدروز أيضاً؟ ما الذي يمكن أن نسمّي ذلك سوى التقسيم البدائي؟
في السنوات الأولى من عمر سورية الحديثة، قسّمتها فرنسا إلى دويلات لها أعلامها وبرلماناتها وحكوماتها، وعاشت تلك الدويلات متجاورة إلى أن توحدت لاحقاً في ظل الاحتلال، بعد أن رفض السوريون واقع التقسيم الفرنسي ذاك، فكانت تجمعهم قيم مشتركة، والأهم مصالح مشتركة. والحال أن في سورية صوتاً خفيضاً يقول أن لا وحدة إلا بتلاقي مصالح الشعب (يبدو أنها الآن شعوب سوريَّة)، حيث لا مصلحة في بقاء الطوائف والقوميات في دولة مركزية مُتجبرة ومخيفة بعد أن فعل السلاح فعله الآثم. هكذا فالوحدة قد تُصبح هدفاً للسوريين لكن في مرحلة ما بعد توقف الحرب، وإيجاد حل لما بات يسمّى «المسألة السورية».
في العودة الى قراءة سريعة لمتن التجربة البعثية يمكن القول إنَّ البعثين أنجزا مهمتهما في تحويل العراق وسورية إلى حطامين ستبقى أجيالهما تبحث عن «الوحدة والحرية والاشتراكية».
شورش درويش