الحنين إلى مصطفى كمال أتاتورك…
بمناسبة ذكرى وصول أتاتورك إلى مدينة صمصون على البحر الأسود، ليطلق منها الحرب الوطنية الكبرى في 1919، تحتفل تركيا كل عام بـ «عيد الشباب والرياضة» المخصص لتخليد ذكرى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة. هو عيد رسمي يشارك فيه تلاميذ المدارس ووحدات الجيش، وقد فقد، مع الزمن، الكثير من بريقه وشعبيته وتحول إلى طقس مكرر ومضجر بالنسبة للأجيال الشابة من الأتراك.
اختلف الوضع هذه السنة، وامتلأت ساحة ضريح أتاتورك المسمى «آنِتْ قبر» بآلاف الشباب الذين حملوا الأعلام التركية وصور «القائد الخالد» أو «أبو الأتراك». ترى هل يعود السبب إلى اقتراب موعد الانتخابات النيابية التي تدور معركتها بين الأحزاب السياسية بضراوة منذ شهرين؟ هل تمكن حزب الشعب الجمهوري، وريث التركة الكمالية، من حشد هؤلاء الناس في استعراض قوة أمام الحزب الحاكم ذي الخلفية الإسلامية؟ أم أن ديناميات اعتراض اجتماعية جديدة أطلقها البرم بالحكم المديد لحزب العدالة والتنمية، وبصورة خاصة برئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الممسك بكل السلطة منذ ثلاثة عشر عاماً؟
ما نعرفه هو أن الحشد الذي اجتمع أمام الضريح المقدس لم يحمل أعلاماً حزبية، ولا يمكن الحديث عن استثمار المناسبة لمصلحة الحزب الجمهوري إلا بصورة غير مباشرة، أي من غير أن يبذل الحزب جهداً خاصاً. المؤسسة العسكرية، الوريثة الثانية للإرث الكمالي وحامية النظام العلماني، هي التي أعلنت عن برنامج الاحتفالية ونظمتها، وبين مفرداته حفل موسيقي، من المحتمل أنه شكل عامل جذب للجيل الشاب.
مهما يكن من أمر تفسير هذا الإقبال الشعبي على المشاركة في إحياء ذكرى القائد المؤسس، لا يسع المراقب إلا أن يربطه بالنقمة المتراكمة على الحزب الحاكم الذي استعاد، في السنتين الأخيرتين، كثيراً من خلفيته الأيديولوجية الإسلامية، إضافة إلى تضييقه المضطرد على الحريات السياسية والاجتماعية، والميول السلطوية الصريحة لدى رجب طيب أردوغان الذي يعمل بكامل طاقته لتحويل النظام السياسي البرلماني إلى نظام رئاسي.
كانت ثورة منتزه غزي التي اندلعت في مثل هذه الأيام قبل عامين، أول تجليات تراكم النقمة هذا. فقد تحول احتجاج محدود على قطع أشجار المنتزه، إلى ثورة عارمة شملت معظم المدن التركية واستمرت، برغم القمع الشديد الذي واجهته من الشرطة، طوال شهر حزيران 2013. الحكومة التي فوجئت بما حدث لجأت إلى كل الوسائل المجربة لدى الأنظمة الديكتاتورية، من قمع غير متناسب إلى تشويه الحقائق واختلاق الأكاذيب إلى فرض رقابة صارمة على الإعلام، وصولاً إلى حجب مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت. وحاربت الصحافيين المعارضين بلقمة عيشهم، فتم طرد نحو ثمانين صحافياً من قادة الرأي العام من وظائفهم. كما وصف أردوغان حركة الاحتجاج العفوية التي حملت الكثير من سمات ثورات الربيع العربي، بأنها مؤامرة دولية بأدوات محلية، متهماً ما أسماه بـ «لوبي الربا» بتمويل الحركة وتشجيعها.
كان من سوء حظ الأتراك أن الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي تمت في وقت متقارب مع ثورة غزي، وبصورة أدق في مطلع تموز، أي بعد إخماد الحركة الاحتجاجية التركية بأيام معدودة. فقد ربط أردوغان، وإعلامه الموالي، بين الحدثين بوصفهما عمليتين انقلابيتين على حكمين إسلاميين منتخبين من الشعب، رابطاً إياهما بإرادة أو مؤامرة دولية. وبلغ به الأمر إلى اتهام الاستخبارات الأميركية بتدبير «أحداث الشغب» في اسطنبول على حد وصفه.
ودأب الحزب الحاكم، منذ ذلك الوقت على تنظيم تظاهرات شعبية من مؤيديه احتجاجاً على ما حدث في مصر في 3 تموز 2013، وكان أردوغان يرفع إشارة رابعة كلما ظهر خطيباً أمام جمهوره. الأمر الذي خلق انطباعاً لدى الأتراك بعودته إلى أصوله الأيديولوجية الإخوانية.
وقد تعزز هذا الاتجاه لدى الطبقة الحاكمة في الأشهر التالية، سواء من خلال إجراءات حكومية كالتضييق على بيع الخمور، أو منع ظاهرة المساكنة المنتشرة بين الطلاب الجامعيين من الجنسين في المدن الكبرى، أو من خلال تصريحات لأركان الحكم اعتبرت استفزازية في تدخلها في أخص خصوصيات الناس كحال تصريح نائب رئيس الوزراء– آنذاك- بولنت أرنج الذي انتقد فيه ضحك النساء بصوت مرتفع، قائلاً إن ذلك يتعارض مع الحشمة كقيمة أخلاقية أصيلة لدى الشعب التركي. يضاف إلى ذلك السياسة الخارجية التركية في زمن ثورات الربيع العربي. فقد تم تقييم هذه السياسة المساندة لثورات الشعوب العربية ضد أنظمتها الدكتاتورية، من قبل المعارضة، بوصفها سياسة ممالئة للحركات الإسلامية، الإخوانية بخاصة، وذات بعد مذهبي (سني) في مواجهة المحور الإيراني الشيعي.
المجتمع التركي متنوع في انتماءاته الأهلية والثقافية، ولا يمكنه تقبل تنميطات تفرض عليه من قبل الحزب الحاكم مهما بلغت شعبيته الكبيرة. المفارقة هي أن الأب المؤسس مصطفى كمال هو الذي حاول تشكيل مجتمع ذي لون أحادي (تركي مسلم سني) بعد تطهيره من الأقليات الدينية والقومية، مع فرض عقيدة علمانية صارمة عليه على النمط الفرنسي اليعقوبي. نجح أتاتورك في تصنيع مجتمع صافٍ من المسلمين (99 في المئة) لكنه لن يعتنق العقيدة العلمانية بديلاً من الإسلام، ولن يتحول ملايين العلويين إلى سُنّة، ولا ملايين الكرد إلى أتراك. يبدو كما لو أن التاريخ يسخر من محاولي صناعته وهندسته، فيأتي زمان يصعد فيه حزب إسلامي سدة الحكم، ويسعى إلى أسلمة المجتمع والدولة.
الحنين إلى مصطفى كمال في تركيا اليوم يبدو مظهراً من مظاهر مقاومة هذه الأسلمة التي يراد فرضها بعد عقود من العلمنة. وتتحول المقاومة العلمانية هذه، في الوقت نفسه، إلى مقاومة ديموقراطية ضد الميول السلطوية للحكم. فقد انتقلت المظلومية التاريخية من المجتمع المتدين المهمش إلى الشريحة العلمانية المهمشة اليوم. هذا ما يفسر سر الصعود السياسي لحزب ديموقراطية الشعوب بقيادة صلاح الدين دمرتاش. فقد استطاع أن يغير من خطابه التقليدي الذي يعبر عن المظلومية الكردية، إلى خطاب جامع لمختلف الحساسيات الاجتماعية المتضررة من الحكم المديد لحزب العدالة والتنمية. وهذا ما أكسبه تأييد أوساط علمانية وديموقراطية ويسارية وعلوية من خارج قاعدته الاجتماعية الكردية.
بكر صدقي