تل أبيض وما بعدها…
ليسا طرفين، عرباً وكرداً، هما من يتنازعان السيطرة على المناطق الشمالية في محافظة الرقة، المحاذية للحدود السورية التركية. خلافاً لما توحيه سجالات دائرة عربية كردية، ثمة بالأحرى ثلاثة أطراف، بل أربعة، بل خمسة. الطرف الثالث ذو التأثير الحاسم في سير الأمور في المنطقة هو الأميركيون. وهذا ليس فقط عبر ضربات جوية مركزة استهدفت بصورة متكررة في الأسابيع الأخيرة مقار لـ «داعش» في تل أبيض والمناطق المجاورة، ولكن خصوصاً ما يرجح حدوثه من تفاهمات سياسية غير معلومة بين الأميركيين والقوات الكردية المهاجمة على الأرض. لا يحتاج إلى نباهة خاصة تقدير أن هناك تنسيقاً بين المهاجمين بسلاح الطيران والمهاجمين على الأرض. مقابل ماذا؟ أي ثمن؟ أية وعود من الطرف القائد الأميركي للطرف الكردي؟ ليس معلوماً. لكن، يمكن أن يكون بينها خلق تواصل أرضي بين كانتوني عين العرب – كوباني والجزيرة، مناطق الكثافة الكردية في أقصى الشمال الشرقي السوري. هذا كلام يتواتر يومياً في أقوال وتعليقات ناشطين كرد، وليس تخميناً ذاتياً. وهو مضمن على كل حال في تصور «روجافا»، أي «كردستان الغربية». معلوم أن مناطق الأكثرية الكردية غرب حلب (عفرين) وشرقها (عين العرب – كوباني) ثم في محافظة الحسكة شرقاً مفصولة عن بعضها بمناطق أكثرية عربية. تصور روجافا يشرع لإنشاء كوريدور مفتوح بين هذه المناطق ويوجبه.
وتوحي وقائع متواترة على الأرض بأن الأمور تسير في هذا الاتجاه فعلاً. لا يلزم أن يكون هناك تهجير نسقي لسكان عرب من قراهم وبلداتهم (وقع شيء من ذلك في غير قرية، ونهبت أملاك وأهين سكان)، لكن فرض سيطرة عسكرية وسياسية على الأرض والتحكم بتحركات السكان يتجاوب مع هذا الطموح.
لكن، هل يضمن الأميركيون فعلاً مشروعاً كهذا، سيقتضي من كل بلد تطهيراً عرقياً ضد عرب المنطقة، يشرّع نفسه منذ الآن بتاريخ الحكم البعثي واضطهاده للكرد؟ هذا ليس مؤكداً. إذ قلما كان الأميركيون معنيين جدياً بضمان وعود قطعوها في ظروف خاصة لأية جماعة. حين تقع مذابح صغيرة أو كبيرة، وفرصُ وقوعها تزداد اليوم، قد يكتفي الأميركيون بالتبرؤ ونفض اليد: إنهم محليون يقتلون محليين! منهج الأميركيين في المنطقة منذ عقود هو منهج «إدارة الأزمات»، وهو منهج يغفل تماماً قضايا العدالة وحقوق السكان، وكان دوماً منبع أزمات أكبر من التي صمم لإدراتها.
الطرف الرابع المحتمل هو تركيا. اليوم تبدو السلطات التركية مرتبكة حيال الوضع الناشئ أخيراً على حدود البلد الجنوبية، وهذا بفعل الانتخابات الأخيرة التي قصّرت يد حكومة حزب العدالة والتنمية في حرية التصرف، وربما تؤول إلى خروجه من الحكم. تركيا لم تفعل شيئاً لضرب «داعش» أو النيل منها في المناطق الأقرب إلى حدودها، بل كان «الدواعش» يعالجون جرحاهم في مستشفيات جنوب البلد على نحو لا يمكن ألّا يكون معلوماً لسلطات أنقرة. والأصل المرجح لهذا المسلك الضال إلى أبعد حد أن تركيا تنظر إلى مناطق الحدود في منطقة الجزيرة السورية من زاوية إضعاف القوى الكردية، تماماً مثلما تنظر قوى معارضة تركية إلى الشأن السوري من منظور معارضتها لحكومة العدالة والتنمية.
كانت حكومة أردوعان صدرت إلى سورية المنهج التركي القديم في التعامل مع كرد تركيا، الحرب والإخضاع، فحرضت ودعمت مجموعات من مقاتلي «الجيش الحر» العرب ضد الكرد في 2012. وأسوأ ما في هذا المنهج السيئ أنه لم يعد معتمداً في تركيا نفسها، وأن سورية عوملت بالتالي كبيئة أدنى، كدار للحرب لا للسياسة. ويبدو اليوم أنه أياً تكن الحكومة التركية التي قد تتشكل في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، فإن تركيا إما ستفاقم الأزمة الكبيرة، الدموية احتمالاً، التي تتجمع عناصرها في منطقة الجزيرة السورية، أو في أحسن حال، لن تكون مؤثرة فيها.
«حزب الشعوب الديموقراطي» الذي يعرض في تركيا وجهاً تركياً يعرض في سورية وجهاً كردياً. في حديثه إلى قناة حزب الله التلفزيونية حيّا صلاح الدين دميرطاش، زعيم الحزب، مقاومة «شعبنا» في «كوباني وروجا والمحمودية»، ولم يقل كلمة واحدة عن بشار الأسد وعن الاحتلال الإيراني، ولم يجد ما يقوله لمليوني سوري لاجئين في تركيا. وبينما سياسة الحزب في تركيا متمركزة اجتماعياً، تبدو حيال سورية متمركزة إثنياً. هنا أيضا يجري تصدير سياسة قديمة إلى سورية، سياسة الهوية، وليس السياسة الاجتماعية التحررية، وهو ما يضمر نظرة تمييزية وكولونيالية إلى البلد الجار. والأصل في التصدير هنا أيضاً أن تفكير الجماعة، والمعارضة التركية ككل، حيال سورية، متمحور حول معارضة سياسة الحزب الحاكم.
سورية نفسها غير مرئية. ويجد الجماعة أنفسهم اليوم لا يعرفون شيئاً تقريباً عن البلد الجار (طلبوا ممن يعرفون إعداد ورقة مختصرة تتضمن أساسيات الواقع السوري)، فيستبطنون المنظور الطبيعي لمن لا يعرف: منطق الهويات وسياستها. يفاقم ذلك أيضاً أن غير قليل من مقاتلي «وحدات حماية الشعب» وقادتها هم من كرد تركيا. هذا ظاهر لزوار عين العرب – كوباني، وأكده فهيم طاشتكين في مقالة له نشرت أخيراً في راديكال التركية (نشرت «الحياة» ترجمة عربية لها يوم 17 حزيران – يونيو الجاري)، تقول أن 500 كردي تركي قتلوا في سورية في القتال ضد داعش؟ لا بد من أن عدد المقاتلين الكلي أكبر بأضعاف كي يكون عدد الضحايا 500.
أما من طرف خامس؟ أين «داعش» نفسه؟ ليس مفاجئاً في تصوري الانهيار السهل لسلطة «داعش» في تل أبيض أو أي مكان. المنظمة الإرهابية قوية فقط في مواجهة سكان عزل أو مجموعات مقاتلة فوضوية وضعيفة التماسك، أكثر مما هي ضعيفة السلاح. ونقطة ضعف «داعش» أنه بلا سند شعبي، ولذلك بالذات يحكم بالإرهاب المشهدي وبغرس الرعب في النفوس. لم يكد «داعش» يخوض معركة حقيقية واحدة. قوات الجيش العراقي انهزمت أمامه من دون حرب، والنظام السوري أخلى تدمر له من دون حرب. والحل البسيط في مواجهة «داعش» هو قوى منظمة، حسنة التسلح، ولها سند شعبي على الأرض، الأمر الذي لا يستطيع النظام الأسدي ولا شبيهه العراقي، ولا أي قصف أميركي من الجو تحقيقه.
لكن أليست مشكلة الأكثرية العربية في المنطقة أنها، بالأحرى، ليست طرفاً، وأن وقوعها تحت سيطرة «داعش» بعد وقت قصير من خروجها من سيطرة النظام، وقتل وتغييب وتهجير أبرز ناشطيها، حرمها من أن تكون طرفاً متماسكاً يمسك بزمام مصيره؟ هناك مقاتلون عرب ضد «داعش» طوال الوقت، يشاركون المجموعات الكردية القتال، لكنهم بلا سند، وعلاقتهم بالشريك الكردي تفتقر إلى الثقة.
يحوز الطرف الكردي في المقابل نقاط قوة مهمة. الأولى هي الدعم الأميركي. الثانية هي قضية القتال ضد «داعش»، القوة الإجرامية التي لا يتعاطف معها أحد. والثالثة هي «العقيدة العسكرية التي توحّد هذه القوات الكردية خلف هدف واحد وهو دحر داعش وتحرير المناطق التي يسيطر عليها في ما يسمى كوردستان العراق أو كوردستان سورية»، وفق جبار ياور، أمين عام قوات البيشمركة في العراق (النهار، 17 – 6 – 2015). هذه العقيدة العسكرية ذاتها تقوم على شعور قومي صاعد، غذاه الحرمان من دولة التمييز المديد ضد الكرد في أربعة بلدان.
أتحدّر شخصياً من هذه المنطقة التي لم يقع قط صراع عنيف بين سكانها. كانت منهوبة ومحتقرة من الحكم الأسدي، وكان ينظر إلى الأكثرية العربية بمنطق شبه استشراقي، وأجهزة النظام الأمنية تتعامل مع السكان كأعداء أجانب، وتشتبه من دون أساس بولائهم لنظام صدام في العراق. والمنطقة تبدو مقبلة على أوضاع أكثر كارثية مما عرفت منذ سيطرت عليها «داعش» قبل عام ونصف. يدفع الثمن السكان الأشد فقراً والأقل حماية، ينتقلون من سيطرة متحكمين إلى متحكمين إلى متحكمين.
وتشحن النفوس باستعدادات تبدو متوافقة مع التهجير والإبادة، لا مع الاعتراض عليها والوقوف في وجهها.
ياسين الحاج صالح