ما فعلته الثورة السورية بتركيا
لاقت الانتخابات العامة التي أجريت، في السابع من حزيران (يونيو) الجاري في تركيا، اهتماماً واسعاً استحقته. لكن التغيير النسبي الذي فرزته نتائجها يستحق مزيداً من التحليل. ستهتم هذه المقالة بجانب منها يتعلق بمفاعيل الثورة السورية وتحولاتها على مجمل الحياة السياسية في تركيا، بما في ذلك تراجع الوزن النسبي لشعبية «حزب العدالة والتنمية» الحاكم كما لشعبية رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
يمكن القول بلا مجازفة كبيرة أن كل الأحداث السياسية المهمة في تركيا، منذ 2011، لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما يحدث في سورية، وبالانخراط التركي في الصراع الداخلي السوري، بحيث شكّل الموقف من هذا الانخراط أحد أهم مواضيع المعركة الانتخابية بين الحزب الحاكم وخصومه السياسيين. فإذا كان «حزب الشعب الجمهوري»، ممثل التيار العلماني الكمالي، يعارض سياسة الحكومة تجاه سورية جملةً وتفصيلاً، ويجد نفسه أقرب إلى نظام دمشق الكيماوي، فـ «حزب الشعوب الديموقراطي»، ممثل التطلعات القومية الكردية والواجهة السياسية لـ «حزب العمال الكردستاني»، دخل في صراع مكشوف مع الحكومة بمناسبة معركة كوباني ونزل أنصاره إلى الشوارع واصطدموا بقوات الشرطة، في الخريف الماضي، فوقع بنتيجة الصدامات أكثر من أربعين قتيلاً.
حتى ذلك الصراع الضاري بين أردوغان وفتح الله غولن، المستمر منذ أواخر 2013، لم يخل من جانب يتعلق بالانخراط التركي في الصراع السوري، وتحديداً بالجانب الأكثر حساسية، أعني دور جهاز الاستخبارات القومي (MIT) في تمرير السلاح إلى المجموعات المسلحة في سورية. فقد ضبطت قوات الشرطة، في غير مناسبة، شاحنات كبيرة محملة بالسلاح والعتاد، متجهة نحو الحدود التركية – السورية، بحماية من جهاز الاستخبارات القومي المعروف بولائه المباشر لأردوغان. في حين أن قوات الشرطة التي فتشت تلك الشاحنات محسوبة على شبكة فتح الله غولن من المريدين الذين تسللوا، طوال سنوات حكم «العدالة والتنمية»، إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها، حتى أن أردوغان أطلق على الجماعة صفة «الكيان الموازي» بمعنى الدولة داخل الدولة. وكان مصير عناصر الشرطة الذين فتشوا شاحنات السلاح التحويل إلى المحاكم وطردهم من سلك الشرطة. عملية الاستئصال هذه طاولت الآلاف من عناصر الشرطة ممن اشتبه بولائهم لغولن.
لكن المظهر الأهم، ربما، من مظاهر تأثير الثورة السورية على تركيا، إنما هو الميول السلطوية الجامحة التي تبلورت لدى أردوغان ودفعت به إلى البحث عن نظام رئاسي يجمع بين يديه كل الصلاحيات المطلقة، ويرمز لها بشفافية عالية نقله مقر الرئاسة من قصر تشانكايا الشهير الذي يعود إلى لحظة تأسيس الجمهورية، إلى «القصر الأبيض» (AK SARAY) الباذخ الذي يضم أكثر من ألف غرفة وجناح. ويجمع اسم القصر، في دلالاته الغنية، بين التشبه، من حيث المعنى، بمقر الرئاسة الأميركية (البيت الأبيض) والاسم المختصر لـ «حزب العدالة والتنمية» (AK PARTİ الذي يعني بدوره «الحزب الطاهر»).
ربط كثير من المحللين الأتراك بين رغبة أردوغان في نظام رئاسي على النمط الأميركي وقضية الفساد التي طاولته شخصياً، في إطار الصراع بينه وبين غولن، للقول إن أردوغان يريد أن يحمي نفسه من المساءلة بواسطة حصانة رئاسية قوية تمتد، على دورتين، إلى 2024. قد يكون هذا هو العامل الشخصي المفسر لجموحه السلطوي، الأمر الذي يعززه سلوك بارانوئي ظاهر في أدائه منذ ثورة منتزه «غزي» مروراً بقضية الفساد، حيث أخذ يرى في كل اعتراض اجتماعي أو معارضة سياسية «مؤامرة دولية بأدوات محلية» تحاك ضد «دور تركيا ووزنها الاقليمي والدولي ومعجزتها التنموية»، على حد تعبيره، وصولاً إلى اتهام كل خصومه بـ «الخيانة الوطنية»، الأمر الذي ألفناه في خطابات الأنظمة الدكتاتورية العربية وامتداداتها الممانعة كـ «حزب الله» اللبناني مثلاً.
لكن أليس هناك عامل موضوعي لا يترك لأردوغان والحكومة التركية الكثير من الخيارات غير خيار نظام قريب في مواصفاته من تلك الدكتاتوريات التي جرفتها رياح الربيع العربي؟ هل يمكن للحكومة التركية الخاضعة لرقابة برلمانية وإعلامية قوية أن تنخرط بفعالية في صراع مسلح في سورية؟ هل يمكن لجهاز الاستخبارات القومي التركي أن يمرر السلاح إلى الثوار السوريين إلا في نظام بوليسي صارم يتكتم بشدة على أعماله ويفرض رقابة متشددة على وسائل الإعلام؟
ربما هذا الوضع المتناقض هو الذي أدى إلى تدهور مكانة «العدالة والتنمية»، وفي القلب منها شعبية أردوغان، ففقد الغالبية المطلقة في البرلمان، وفقد معها احتكاره للسلطة. أعني بالوضع المتناقض أن حكومة منتخبة ديموقراطياً، ويتمتع الفضاء العام في ظلها بحرية تداول المعلومات، لا يمكنها أن تلعب دوراً ثورياً في الخارج من خلال دعم مجموعات مسلحة متمردة على النظام في بلد مجاور. هذا الدور الذي ألفناه في مسالك النظام الأسدي السوري أو نظام الملالي في إيران، لا يمكن تصور تكراره في بلد كتركيا تعود تقاليد الانتخابات الديموقراطية التعددية والحريات الصحافيه فيه إلى 1950، على رغم كل المثالب التي يمكن تسجيلها على نموذج «الديموقراطية التركية» التي شقت طريقها بصعوبة من خلال تراث الانقلابات العسكرية.
ربما ما جذب أردوغان إلى النموذج الرئاسي الأميركي تحديداً إنما هو الدور المعروف لأجهزة الاستخبارات الأميركية (المخابرات المركزية بصورة خاصة) في عمليات «ثورية» مناهضة لأنظمة حكم مناوئة للولايات المتحدة في بلدان أجنبية (كوبا مثلاً). وعلى رغم النقد الذي طالما تعرضت له العمليات القذرة لعملاء «السي آي إي» خارج الولايات المتحدة، كان مفهوم «المصلحة الوطنية الأميركية» كفيلاً بحمايتهم من المساءلة القضائية. نموذج مماثل سيكون مغرياً لقائد كاريزمي كأردوغان يحلم باستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية في المشرق، وقد تراءى له في ثورات الربيع العربي فرصة ذهبية لتحقيق تلك الأحلام، بخاصة بوجود دور قوي للإسلام السياسي في قيادة بعض تلك الثورات، الأمر الذي يقدم لأردوغان شراكة إيديولوجية مع حكام المستقبل المفترضين في بلدان الربيع العربي.
هذه الحماسة الأيديولوجية والاندفاع الثوري العثماني ارتدا على أردوغان خسارة في الانتخابات قد تدفعه إلى مراجعة حساباته في الداخل والخارج.
بكر صدقي