مثقفون سوريون يرسلون بارقة أمل
لن يكونوا قلة من قد يعترضون أو ينتقدون تسليط الضوء على واقعتين لافتتين في الحقل الثقافي السوري، اخترقتا مسار الصراع الدموي المحتدم وعبثتا في المشهد السائد الغاصّ بالضحايا والخراب وبصور الاستقطابات الحادة والتعبئة المتطرفة الإقصائية التي تحض على تسعير القتال وسحق الآخر المختلف.
الإضاءة على هاتين الواقعتين ليست لأن الغريق يتعلق بقشة، أو لأن ثمة ميلاً إنسانياً انتقائياً يبرز عادة من الأحداث ما يلبي الرغبات والأمنيات، وإنما لأنهما تشكلان علامتين فارقتين وضروريتين اليوم، للتخفيف من حدة التخندق والاحتقان ومن نوازع العزلة والانغلاق بين السوريين، ولمحاصرة منطق العنف وأساليب التكفير والتخوين، والتشجيع تالياً على إحياء روح التعايش والرغبة في تحقيق اندماج وطني يقوم على عقد اجتماعي تحكمه المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان.
الواقعة الأولى، هي بيان حمل عنوان «سورية للجميع وفوق الجميع» وقعه مئات المثقفين السوريين من الأكراد والعرب، الذين ينتمون إلى منابت اجتماعية مختلفة وينهلون من مشارب فكرية متنوعة ولا يحكمهم موقف سياسي واحد، ولكنهم، أجمعوا توافقياً على رفض استثمار الصراع المتفاقم لخلق ما يعتبرونه فتنة بين أبناء الوطن الواحد وخاصة بين المكونين الكردي والعربي.
وما يهم أن البيان جاء من حيث الجوهر، وبغض النظر عن ديباجته السياسية، كمحاولة لوأد تداعيات ما أثير عن تطهير عرقي ضد السكان العرب يقوم به مقاتلون أكراد، وعن موقف متشفٍ لبعض المعارضين العرب من مجازر داعش في عين العرب «كوباني» بما هي محاولة لإخماد فورة الانقسامات والاحتقانات والتحذير من التوغل في التخندق، ومن مخاطر إنكار حقوق مكونات المجتمع السوري وتجاوز المشروع الوطني المشترك بين العرب والأكراد الذي أسست له المعارضة الديموقراطية في العقدين الآخرين، زاد الأمر إلحاحاً، حساسية المرحلة الراهنة وتقدم مؤشرات عن مشاريع وسيناريوات تريد تقسيم البلاد على أساس قومي أو طائفي، في ظل تزايد وزن المعارضة الإسلاموية المسلحة وسيطرتها على أقسام مهمة من البلاد، وما يثار عن سعي أطراف النظام لتكثيف قواها ودفاعاتها حول ما يسمى «سورية المفيدة»!
الواقعة الثانية تتعلق بالدراما السورية الرمضانية، وإذ نعترف بأن معاناة السوريين بين لاجئين ونازحين ومعتقلين ومعوزين ومعرضين يومياً لشتى أنواع العنف والقهر، تتجاوز الحديث عن الدراما، ونعترف بأنه يصعب على القابعين تحت سيطرة «داعش» و «النصرة» مشاهدة التلفزيون، وبأن هناك مناطق محاصرة أو مهملة تفتقد إمكان متابعة برامجه بسبب الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، نعترف أيضاً بأن كثرة من السوريين تتابع، انسجاماً مع تقاليد شهر رمضان، ما تعرضه الشاشات العربية من دراما تحتل فيها المسلسلات السورية حيزاً مهماً. واللافت، وعلى رغم حدة المواقف والاصطفافات، أن حالة التقبل والرضا هي الغالبة على الناس ربطاً بما تثيره أهم هذه المسلسلات من مواضيع تهمهم، ربما لأن منها ما يذكرهم بروح التعايش والتعاون ويحاول تخفيف حدة الشروخ المتخلفة التي تسعى أطراف الصراع لخلقها بين أبناء الوطن الواحد، وربما لأن بعضها يحاول وضع حجر الأساس لتأريخ ما حصل، أو يتناول من زاوية نقدية الممهدات والأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وربما لأن بعضها الآخر يعمم هموم السوريين وما يكابدونه ويرصد الانعكاسات المؤلمة للأحداث الساخنة على أوضاعهم الحياتية وعلاقاتهم الإنسانية، وربما أخيراً لأن ثمة مسلسلات ضمت ممثلين من الموالاة والمعارضة، أظهروا تفهماً لخلافاتهم واصطفافاتهم، بما يعني عملياً الترويج لمناخ يحترم فيه الرأي والرأي الآخر وتعالج فيه المشكلات بالحوار والتوافق وليس بالقمع والعنف والتهميش والإقصاء.
والحال، تبدو هاتان الواقعتان كأنهما تبعثان في هذا الظرف العصيب بعض الأمل بدور المثقفين السوريين في تجاوز الخنادق والحواجز ونشر قيم التسامح والتعايش وحماية الهوية الوطنية من الانزلاق إلى التفكك في بلاد تزخر بتعددية مكوناتها، بما قد يعزز فرص المعالجة السياسية وعملية الانتقال الشاقة إلى دولة مدنية تضمن حقوق الجميع من دون تمييز أو تفضيل قومي أو ديني أو مذهبي، والأهم للرد على مشهد ثقافي يثير الشفقة هزمه العنف المتمادي ومنطق القوة والغلبة وجعلاه مجرد صدى أو أداة تبرير وتسويغ لما يحصل.
صحيح أن السلطة، أية سلطة، تحتاج لتثبيت ركائزها إلى مثقف يسوغ لها سياساتها وممارساتها من أجل تعضيد النظام الذي تقوده وضمان تأييد الناس له، لكنّ ثمة مثقفين ليسوا أحسن حالاً وقد داروا مسلوبي الإرادة في فلك المعارضة ولم يميزوا أنفسهم كحملة مشروع خاص يتطلع، بالاستقلال عن التخندقات السياسية، إلى حماية المجتمع كيانياً وإنسانياً وأخلاقياً، ما يفسر الحاجة لإبراز وتقدير المساهمات البسيطة التي يلعبها بعض المثقفين السوريين اليوم، في لجم شهوة العنف والتسلط وفي إدانة احتقار حيوات الناس وحقوقهم وفي تنقية الوعي الجمعي من الاستقطابات ما دون السياسية ومن التطرف وشيطنة الآخر المختلف في الوطن تمهيداً لسحقه وإفنائه.
وبالنتيجة يمكن القول إن ما وصلت إليه أوضاعنا مع طغيان العنف وتهميش السياسة، يعقد الأمل على دور للمثقف والمبدع السوري، كناقد منحاز لحقوق الناس وحرياتهم، ينطلق في نقد الواقع المأزوم والمهترئ، من إيمانه بتأثير الفكر والمعرفة على الصراع السياسي، ومن ثقته بدور البشر في مقاومة الراهن وقدرتهم على تغييره.
ولا نضيف جديداً عند التذكير بأن المجتمعات تتطلع في أوقات المحن والأزمات إلى دور إنقاذي للمثقفين بصفتهم أشد الناس التصاقاً بالمعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل وأكثرهم استعداداً للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم، أو ربما كنوع من الاعتراف بمسؤوليتهم الأخلاقية العالية في رفض الظلم والتمييز ومنطق العنف والتدمير، وفي نشر أفكار ومواقف تساهم بوقف التدهور الحاصل ومساعدة المجتمع على الإمساك بزمام المبادرة لبدء رحلة العد العكسي نحو التجاوز.
اكرم البني