أي مصير ينتظر سوريا؟
كنت ضابط احتياط ضمن الجيش السوري في لبنان أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت صيف 1982. وقد كنا نراقب من موقعنا في مجدل ترشيش – المتن الشمالي وقائع حصار بيروت، والقصف الإسرائيلي لها جواً وبحراً وبراً. كما كنا نتابع الأخبار والتصريحات، والمواقف السياسية لمختلف الأطراف.
أعلنت إسرائيل أكثر من مرة في ذلك الحين أن الفلسطينيين يهاجمون المواقع الإسرائيلية من الخطوط السورية؛ وكانت تطالب القيادة السورية بضبط خطوطها تجنباً للمحاسبة. وكان عبدالحليم خدام نائب رئيس الجمهورية في ذلك الحين يردّ قائلاً: لن نكون حراساً لإسرائيل. ولكن على الأرض كانت التعليمات مشددة بخصوص منع حدوث أي اختراق فلسطيني باتجاه الخطوط الإسرائيلية؛ حتى أن دورية كنت فيها تعرضت في إحدى المرّات لإطلاق النّار من قبل حاجز للجيش السوري. وحين نزلت من السيارة مستفسراً عن السبب؛ كان الاعتذار بأنهم قد اعتقدوا أننا من الفلسطينيين.
كان القصف يشتدّ على الفلسطينيين، والمفاوضات التي كان يديرها فيليب حبيب مستمرة بهدف إخراج منظمة التحرير وياسر عرفات من بيروت؛ ومرة أخرى كان عبدالحليم خدام يطلب من المقاتلين أن يبقوا حيث هم؛ من دون أن يقدّم أية مساعدة لهم؛ بل إن المنظمة نفسها كانت تساعد بزادها القليل اللواء 85 من الجيش السوري الذي كان هو الآخر محاصراً في بيروت.
وأذكر ضمن هذا السياق أننا كنا نراقب بحسرة من موقعنا الجبلي القصف العنيف على بيروت، من دون أن يكون في مقدورنا أن نفعل شيئاً. حتى أن أحد العسكريين التفت إلي في إحدى المرات مقهوراً قائلاً بحرقة أليمة: كيف يمكنهم أن يبقوا حيث هم هكذا؟
وانتهت المفاوضات بالتوافق على إخراج منظمة التحرير وياسر عرفات من لبنان؛ وهو الأمر الذي كان يعد من سابع المستحيلات قبل الاجتياح المذكور. وما أذكره حتى الآن بخصوص هذا الموضوع هو مضمون مقابلة صحافية مع وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الحين آريل شارون نُشرت في ذلك الحين حول مستقبل السلام في المنطقة. سأل الصحافي (لا أتذكر بكل أسف اسمه ولا اسم الصحيفة) شارون قائلاً: هل يمكننا القول أن السلام بين العرب وإسرائيل سيتحقق الآن بعد إخراج منظمة التحرير من بيروت، وإبعاد ياسر عرفات عنها؟
فكان جواب شارون في معناه العام هو التالي: السلام ما زال بعيداً. ولن يتحقق قبل أن تكون هناك دولة علوية وأخرى درزية وواحدة كردية وشيعية….الخ.
كما قلت هذا ما ظل في ذاكرتي من تلك المقابلة التي كانت بالتأكيد أكثر تفصيلاً.
ما دفعني إلى العودة إلى هذه الذكريات التي كانت قبل أكثر من ثلاثة عقود، هو ما يحدث راهناً على الأرض في سورية تحديداً، وفي العراق، وربما يمتد إلى الجوار الإقليمي.
فمع تنامي قوة «داعش» بصورة غير طبيعية إشكالية في ربيع عام 2013، وسيطرته على الرقة، ومن ثم أجزاء واسعة من محافظة دير الزور، وتمدّده باتجاه الحسكة، وتحركّه الواسع على نطاق لافت في العراق، شعرنا أن ترتيباً جديداً للأوضاع في المنطقة يجري الإعداد له، وهو ما اعتبرناه تفسيراً لسلبية المجتمع الدولي المستمرة في مواجهة جرائم نظام بشار الأسد بحق السوريين. وبعد سيطرة «داعش» على الموصل بأسلوب سينمائي إبهاري، متكامل مع حالات الإعدام التي نفذها التنظيم المعني بإخراج هوليودي؛ بدأت ملامح الصورة الكاملة تظهر شيئاً فشيئاً، خاصة بعد هجوم التنظيم المعني على سنجار والمناطق الأخرى من كردستان العراق، وتبلورت ملامح الصورة بصورة أوضح بعد استهداف «داعش» كوباني، والتعاون الذي تم بين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ومقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي في معركة كوباني، ومن ثم في الجزيرة وتل أبيض. هذا إلى جانب سيطرة «داعش» على الرمادي، ومن ثم تدمر، والحرب على الزبداني، وإخراج قوات النظام من محافظة إدلب، والمطالبة الإيرانية الصريحة بمقايضة مذهبية بين الزبداني والفوعة وكفريا؛ والحديث عن تفاهمات أميركية- تركية بخصوص المنطقة العازلة التي من المفروض أن تشمل محافظة ادلب وأجزاء من محافظة حلب؛ هذا إلى جانب تنامي الدعم السعودي- الأردني لقوات المعارضة في الجنوب؛ ودخول القوات الروسية بصورة علنية وبقوة لافتة إلى الساحل السوري، كل ذلك يدفعنا نحو استنتاج مفاده أننا في مواجهة جهود دولية قد تبدو متنافرة من جهة النوايا المعلنة، ولكنها في الواقع تتكامل بهذه الصورة أو تلك من جهة إمكان استخدام الورقة السورية لتقوية المواقف، وتعزيز المواقع على الأرض؛ وكل هذا يحدث بعيداً عن السوريين الذين يبدو أنهم قد أضاعوا البوصلة بعد سنوات من حرب مفتوحة أعلنها النظام عليهم، وبعد سلسلة من الوعود الإيهامية التخديرية، والتصريحات المتناقضة الهلامية من قبل الأصدقاء خاصة، وهي تصريحات سرعان ما كانت تتغير، وتتبدّل انسجاماً مع عقلية إدارة الأزمة التي ما زالت هي المعتمدة.
ولم تتمكّن القوى السياسية في المعارضة السورية بكل أسف من توحيد المواقف كما ينبغي، ولم تتفاعل مع القوى الميدانية والمخيّمات والجاليات كما ينبغي؛ كما لم يكن في مقدورها طمأنة السوريين من سائر المكوّنات كما ينبغي.
وفي الوقت ذاته، لم تتمكّن المعارضة المعنية من تحديد مكامن قوتها لتستثمرها، ولم تعمل على تجاوز مكامن ضعفها.
وفي أجواء كهذه، تتزاحم الخلافات والتباينات الفرعية، وتظهر اصطفافات جديدة تزيد الوضع تعقيداً، وتضيف ضعفاً جديداً إلى ضعف قائم.
وفي ظل واقع تبعثر الجهود الميدانية، وتشتّتها، وتباين مرجعياتها، تبدو المعادلة السورية مستحيلة الحل، إذا ما اعتمدنا العاملين الوطني والإقليمي وحدهما فحسب؛ لذلك نرى أن الجميع في انتظار التوافق الأميريكي – الروسي، الذي يرجح بأنه لن يكون في مصلحة سورية التي عرفناها؛ وإلّا لما كان كل هذا الدمار والقتل والتشريد الذي لحق بسورية وشعبها بفعل الدعم الروسي اللامحدود للنظام، واللامبالاة الأميركية اللامحدودة لأسباب تتصل بإعادة النظر في المعادلات الإقليمية والدولية التي كانت.
لقد تفاءلنا كثيراً بالخير ولم نجده. فلنتشاءم قليلاً، علّنا نجد المخرج.
عبد الباسط سيدا