استحقاقات المعارضة السورية
أي حل انتقالي أو دائم في سورية يهدف الى خدمة كل السوريين، حتى مع تنوعهم واختلافاتهم، يفترض ان يبدأ بوقف تام لكل أعمال القتل والتدمير والتشريد، والإفراج عن المعتقلين، ورفع الأطواق الأمنية عن المناطق المحاصرة، وإخراج الجماعات او الميليشيات المسلحة الأجنبية من البلد، بضمانة قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي ومع تواجد قوات دولية. طبعاً هذا هو الشرط اللازم لأي بداية، وتأتي بعد ذلك الخطوة التي لا بد منها، وهي صياغة دستور جديد يضمن حقوق المواطنة، وأهمها الحرية والمساواة بين جميع المواطنين، في دولة مؤسسات وقانون، والاحتكام للقواعد الديموقراطية في تداول السلطة. هذا هو الحل الأمثل والمتوازن، لأن أي حل آخر، لا يصبّ في هذه المسارات، ولو بالتدريج، سيعني استمرار الواقع الراهن، لا سيما ان إعادة انتاج النظام القديم أصبحت غير واقعية.
بيد أن اعتقاداً كهذا يعتريه العديد من الشبهات الناجمة عن الصعوبات والتعقيدات والمداخلات في الشأن السوري، على ما بينت تجربة السنوات الخمس الماضية، وهذه يمكن تبيّنها: أولاً، في تعنّت النظام، مع روح الإنكار التي تتملكه، والذي ما زال يتصرف، رغم كل ما جرى، باعتبار ان هذه «سورية الأسد إلى الأبد»، كأنها بمثابة ملكية عقارية خاصة، ليس ثمة مواطنون فيها، او كأن هؤلاء مجرد مقيمين، لا حقوق لهم. ثانياً، هذا يتعلق بحلفاء النظام، لا سيما ايران وروسيا، اللتين تريان أن أي تغيير في سورية، سيكون بمثابة نهاية لنفوذهما فيها، وبخاصة على ضوء تورطهما عسكرياً في دعم النظام القائم ضد غالبية شعبه. ثالثاً، ايضاً هذا مرتبط بما يريده ما يعرف بـ «أصدقاء الشعب السوري»، فنحن هنا ايضاً ازاء مصالح وسياسات ورؤى متضاربة، أثقلت على ثورة السوريين، وحمّلتها اكثر مما تحتمل، فضلاً عن انها اخذتها الى احوال انهكت مجتمع السوريين وأضرّت به. رابعاً، طبعاً، ثمة المنظمات الإسلامية الجهادية، لا سيما «داعش» و»جبهة النصرة»، وهذه لا علاقة لها لا بالثورة ولا بأجندة السوريين، المتعلقة بالتغيير السياسي. ورغم أن هذه التنظيمات ستفقد عالمها الذي كانت تعيش عليه، أي ستفقد المستثمرين فيها، لكن انحسارها سيرتبط بمدى التزام جميع الأطراف بوقف هذه اللعبة، ومدى الصرامة في وضع حد لمصادر تمويل وإمداد هذه الجماعات، وعدم تسهيله لها. خامساً وأخيراً، لدينا واقع المعارضة السورية، وهو موضوع هذه المادة، فهذه بدورها لا تبدو على ما يرام، في تشكيلاتها السياسية او في تشكيلاتها العسكرية، ناهيك عن تشرذمها واختلافاتها، وضعف اهليتها، والفجوة بينها وبين مجتمع السوريين في الداخل والخارج. ومشكلة هذه المعارضة انها، ورغم مرور حوالى خمسة أعوام تقريباً على الثورة، وأربعة أعوام على تشكيلها (في «المجلس الوطني» ثم في «الائتلاف»)، إلا انها لم تثبت ذاتها، إلى الدرجة المناسبة، لا ازاء النخب السورية، من أكاديميين وسياسيين ومثقفين وفنانين وتكنوقراط، ولا ازاء شعبها، في الداخل والخارج، ولا إزاء العالم.
هكذا، ومع اعتبار الظروف الصعبة والتعقيدات والمداخلات الخارجية، إلا أن التجربة بيّنت أن ثمة مشكلات ذاتية أيضاً، تكمن في هذه المعارضة، وهذا ما يمكن ملاحظته في النقاط الآتية:
1 – كان يجدر بالمعارضة ان تكون اكثر مسؤولية وأكثر ادراكاً لتعقيدات الوضع السوري، بحيث تكبر على خلافاتها وحساباتها الشخصية، وتوسع قاعدة تمثيلها، وترتب بيتها، وأن تعزز علاقتها بشعبها. على العكس من ذلك، إذ إن القوى، أو الشخصيات الممثلة في المعارضة تصرفت وكأنها تحتكر تمثيل السوريين، ليس فقط في مواجهة التشكيلات الأخرى المنافسة، بغض النظر عن نوعية هذه التشكيلات، وإنما في مواجهة قطاع واسع من الكوادر السياسية المجرّبة، والمثقفين المعارضين، والنشطاء الذين حملوا الثورة في بداياتها.
2 – لم تنتبه المعارضة إلى أخطار تبديد الهوية السياسية للثورة، بسبب التلاعبات الخارجية بها، وبحكم ضعف بنيتها السياسية، وبواقع تغوّل الجماعات العسكرية، المتعدّدة الاتجاهات والولاءات، والتي اخذت الثورة الى خطابات اخرى. وكان يفترض بالمعارضة، وهذا مبرر وجودها، أن تكون أكثر حرصاً على التمسك بخطاب الثورة، وتوضيح ماهيتها، باعتبارها ثورة ضد الاستبداد ومن اجل الديموقراطية وإقامة دولة المؤسسات والقانون، واعتبار سورية لكل السوريين. طبعاً لم تغير المعارضة خطابها، لكنها سكتت عن خطابات الجماعات العسكرية المتطرفة، ذات الطابع الطائفي والديني، التي هيمنت على المشهد، وهو ما افاد النظام.
3 – لم تبدِ المعارضة الانتباه اللازم لأخطار تفريخ الجماعات العسكرية المتوزعة الولاءات، ولا لأخطار تصعيد الصراع المسلح، فوق الإمكانيات وفوق القدرة على التحمل، وبمعزل عن فكرة الدفاع عن النفس او التطور في احوال الثورة ذاتها وأحوال مجتمعها. وما أضعفَ موقفَ هذه المعارضة أنها بدت منقطعة الصلة بالجماعات العسكرية، وغائبة تمامًا عما يعرف بالمناطق المحررة، التي لم تستطع فتح مكتب فيها، وهذه معضلة اخرى، نجم عنها غياب نشاط المعارضة في الداخل، بالقياس الى الوضع الذي كان في العامين الأول والثاني للثورة. وربما لا نضيف جديداً بالقول إن هذه المعارضة، وبغض النظر عن الادعاءات، لم يكن لها اي قرار او دور في خصوص التحول نحو الصراع المسلح، ولا في شأن ايجاد مناطق محررة.
4 – كشفت تجربة المناطق المحررة إخفاقاً كبيراً، اذ لم تنجج في ادارة احوالها، ولا في التسهيل على الثورة، فضلاً عن انها خسرت في الصراع على النموذج مع النظام. ومع معرفتنا بعدم علاقة المعارضة بهذه المناطق، التي باتت بمثابة اقطاعات لجماعات عسكرية، الا ان مسؤوليتها تكمن في عدم نقد هذه الظاهرة، وسكوتها عنها، لكسب رضى القوى المهيمنة.
5- لم تدرك المعارضة جيداً الأخطار الكامنة وراء تشرد ملايين السوريين، ونزوحهم إلى مناطق اخرى، أو تحولهم إلى لاجئين في البلدان المجاورة او في بلدان العالم، إذ ان ذلك اخرج السوريين من معادلة الصراع، وحرم الثورة من البيئات الشعبية الحاضنة، وسهّل على النظام، فضلاً انه حوّل القضية السورية الى قضية انسانية او قضية لاجئين.
6 – في علاقتها مع ما يسمى «معسكر الأصدقاء»، يؤخذ على المعارضة ضعف حساسيتها ازاء التدخلات والإملاءات الخارجية، في تحديد خطاباتها وأشكال عملها، وحتى لجهة تواجد ممثلين لبعض الدول في بعض اجتماعاتها، وذلك في غمرة اعتمادها على الخارج وارتهانها له، لا سيما بعد التحول الى العمل المسلح، من دون ملاءمة ذلك مع مصلحة السوريين وأولوياتهم، علماً أن الدول لا تعمل كجمعيات خيرية، وإنما وفق رؤيتها لمصالحها ولدورها الإقليمي وللنموذج الذي تريده.
7 – ظلت المعارضة السورية طوال الفترة الماضية تتحرك وفقاً لخطاب المظلومية، ووفقاً لنزعة تطالب الدول الغربية بالقيام بما عليها لنصرة الشعب السوري، إن بإيجاد مناطق آمنة، او بوضع حد للقصف بالبراميل المتفجرة، او غير ذلك، لكنها لم تنتبه إلى ان خطاب المظلومية والحق والعدالة لا يكفي لتعاطف العالم، بدليل تجربة الفلسطينيين. والحال فإن الدول تشتغل على أساس المصالح وموازين القوى، لذا ربما كان الأجدر بالمعارضة ان تشتغل على بناء ذاتها، وتعزيز هيئاتها وأن تحافظ على خطاباتها المتعلقة بالحرية والديموقراطية والمساواة والمواطنة، التي تنسجم مع القيم العالمية، كي تكسب ثقة هذه الدول واحترام مجتمعاتها.
طبعاً ليس القصد من كل ذلك التقليل من اهمية المعارضة، أو من الصعوبات والتحديات والتعقيدات التي واجهتها في عملها، على أكثر من صعيد، فهذه أمور لا يمكن انكارها، وإنما القصد وضعها أمام أوجه العطب فيها، لعلها تستطيع إعادة تأهيل ذاتها للتعامل مع استحقاقات فيينا، وما بعدها. ومثلاً، حتى الآن لا توجد هيئات منظمة للمعارضة تنشط في اوساط تجمعات اللاجئين السوريين في البلدان الأوروبية، مع وجود انتخابات او من دونها، ناهيك عن غياب نشاطات منظمة في مجتمعات هذه البلدان.
ولعل ما يفترض ان تدركه المعارضة السورية ان التحدي الأساسي امامها سيظل يتمثل بإعادة بناء بيتها، على اسس تمثيلية اوسع، وباعتماد الكفاءة والصدقية النضالية، هذا اولاً. ثانياً، هذا يفترض استعادة خطاب الثورة الأساسي المتعلق بالتغيير الديموقراطي والمواطنة. وثالثاً، وضع حد للتلاعبات والمداخلات الخارجية المضرة، من اي طرف كان. ورابعاً، يفترض ان تدرك هذه المعارضة انها ازاء مرحلة انتقالية، وأن هذه المرحلة تتضمن تحديات جمة، تتطلب أعادة بنائها وتأهيلها، كي تستطيع مواجهتها بنجاح.
ماجد كيالي